كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)

فكأنه قيل وما تشاؤن مشيئة تستلزم الفعل إلا وقت أن يشاء الله تعالى مشيئتكم تلكفت تعلم أن هذه المسألة من محار الأفهام ومز الأقدام أقوام بعد أقوام وأقوى شبه الجبرية أنه قد تقرر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد فإن وجب صدور الفعل فلااختيار وإلا فلا صد أن جميع ما يتوقف عليه الفعل إذا تحقق فأما أن يلزم الفعل الاضطرار أو لا فيلزم جواز تخلف المعمول عن علته التامة بل مع الصدور الترجيح بلا مرجح فقد قيل أنها نحو شبهة ابن كمونة في التوحيد يصعب التقصي عنها وللفقير العاجز جبر الله تعالى فقره ويسر أمره عزم على تأليف رسالة إن شاء الله تعالى في ذلك سالكا فيها بتوفيقه سبحانه أحسن المسالك وإن كان الكوراني قدس سره لم يدع فيها مقالا وأوشك أن يدعك لمن جاء بعد فيها بشيء عليه عيالا والله تعالى الموفق وقرأ العربيان وابن كثير وما تشاؤن بباء الغيبة وقرأ ابن مسعود إلا ما يشاء الله وما فيهم صدرية كأن قراءة الجماعة وقد أشرنا إلى أن المصدر في محل نصب على الظرفية بتقدير المضاف هو مسده وهو ما اختاره غير واحد وتعقبه أبو حيان بأنه منصوب على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح فلا يجوز أجيئك أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وإنما يجوز أجيتك صياح الديك وكأنه لهذا قيل إن أن يشاء بتقدير حرف الجر والأستثناء من أعم الأسباب وما تشاؤن بسبب من الأسباب إلا أن يشاء الله تعالى إن الله كان عليما مبالغا في العلم فيعلم مشيئات العباد المتعلقة بالأفعال التي سألوها بألسنة استعداداتهم حكيما مبالغا في الحكمة فيفيض على كلما هو الأوفق باستعداده وما هو عليه في نفس الأمر من المشيئة أو أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد من الطاعة وخلافها فلا يشاء لهم إلا ما يستدعيه علمه سبحانه وتقتضيه حكمته عز و جل وقيل عليما أي يعلم ما يتعلق به مشيئة العباد من الأعمال حكيما لا يشاء إلا على وفق حكمته وهو أن يشاء العبد فيشاء الرب سبحانه وتعالى لا العكس ليتأتى التكليف من غير انفراد لأحد المشيئتين عن الأخرى وفيه بحث وقوله تعالى يدخل من يشاء في رحمته الخ بيان لما تضمنته الجملة قيل أي يدخل سبحانه في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهوالذي علم فيه الخير حيثي وفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الأيمان والطاعة والظالمين أي لأنفسهم وهم الذين علم فيهم الشر عد لهم عذابا أليما متناهيا في الإيلام ونصب الظالمين بإضمار فعل يفسره أعد الخ وقدر يعذب وقد يقدر أو عد أو كافأ أو شبه ذلك ولم يقدر أعد لأنه لا يتعدى باللام وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة والظالمون على الأبتداء وقراءة الجمهور أحسن وإن أوجبت تقديرا للطباق فيها وذهابه في هذه إذ الجملة عليها إسمية والأولى فعلية ولا يقال زيادة التأكيد في طرف الوعيد مطلوبة لأنا نقول الأمر بالعكس لو حقق لسبق الرحمة الغضب وقرأ عبد الله وللظالمين بلام الجر فقيل بما بعد على سبيلا لتوكيد وقيل هو بتقدير أعد للظالمين أعد لهم والجمهور على الأول ثم إن هذه السورة تضمنت من سعة رحمة الله تعالى عز و جل ما تضمنت إلا أنها أشارت من عظيم جلاله سبحانه وتعالى إلى ما أشارت أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والضياء في المختارة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي ذر قال قرأ هل أتى على الإنسان ختمها ثم قال إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلىالصعدات تجأرون إلى الله عز و جل وهذا كالظاهر فيما قلنا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار والمقربين الأخيار فيرزقنا جنة وحريرا ويجعل سعينا لديه مشكورا بحرمة النبي صلى الله تعالى

الصفحة 168