كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)
أو يقدر له جواب يدل عليه الكلام المذكور واستظهر هذا الوجه أبو حيان والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام لتشريفه صلى الله تعالى عليه وسلم والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه في العلو إلى غاية لا غاية وراءها والمراد تنزيهه صلى الله تعالى عليه وسلم عما كانوا ينسبونه إليه صلى الله عليه و سلم من الجنون حسدا وعداوة ومكابرة فحاصل الكلام أنت منزه عما يقولون
وإن لك بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم وتحملك أعباء الرسالة
لأجرا لثوابا عظيما لا يقادر قدره
غير ممنون أي مقطوع مع عظمه أو غير ممنون عليك من جهة الناس فإنه عطاؤه تعالى بلا واسطة أو من جهته تعالى لأنك حبيب الله تعالى وهو عز و جل أكرم الأكرمين ومن شيمة الأكارم أن لا يمنوا بإنعامهم لا سيما إذا كان على أحبابهم كما قال
سأشكر عمرا أن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
وإنك لعلى خلق عظيم لا يدرك شأوه أحد من الخلق ولذلك تحتمل من جهتهم ما لا يحتمله أمثالك من أولي العزم وفي حديث مسلم وأبي داود والإمام أحمد والدارمي وابن ماجه والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فإن خلق نبي الله كان القرآن وأرادت بذلك على ما قيل أن ما فيه من المكارم كله كان فيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما فيه من الزجر عن سفساف الأخلاق كان منزجرا به عليه الصلاة و السلام لأنه المقصود بالخطاب بالقصد الأول كذلك لنثبت به فؤادك وربما يرجع إلى هذا قولها كما في رواية ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء أنه سألها عن خلقه عليه الصلاة و السلام فقالت كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه وقال العارف بالله تعالى المرصفي أرادت بقولها كان خلقه القرآن تخلقه بأخلاق الله تعالى لكنها لم تصرح به تأدبا منها وفي الكشف أنه أدمج في هذه الجملة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم متخلق بأخلاق الله عز و جل بقوله سبحانه عظيم وزعم بعضهم أن في الآية رمزا إلى أن الأخلاق الحسنة مما لا تجامع الجنون وأنه كلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد عن الجنون ويلزم من ذلك أن سوء الأخلاق قريب من الجنون
فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون أي المجنون كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن جبير وعبد بن حميد عن مجاهد وأطلق على المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون وقيل لأن العرب يزعمون أن الجنون من تخييل الجن وهم الفتان للفتاك منهم والباء مزيدة في المبتدأ وجوز ذلك سيبويه أو الفتنة فالمفتون مصدر كالمعقول والمجلود أي الجنون كما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن وأبي الجوزاء وهو بناء على أن المصدر يكون على وزن المفعول كما جوزه بعضهم والباء عليه للملابسة أو بأي الفريقين منكم الجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهو تعريض بأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما والباء على هذا بمعنى في وقدر بأي الفريقين منكم دفعا لما قيل من أن الخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجماعة قريش ولا يصح أن يقال لجماعة وواحد في أيكم زيد وأيد الإعتراض بأن قوله تعالى فستبصر ويبصرون خطاب له عليه الصلاة و السلام خاصة وجواب التأييد أن الخطاب بظاهره خص برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليجري الكلام على نهج السوابق ولا يتنافر لكنه ليس كالسوابق في الإختصاص حقيقة لدخول الأمة فيه أيضا فيصح تقدير بأي الفريقين وادعى صاحب الكشف أن هذا أوجه الأوجه لإفادته التعريض وسلامته عن استعمال النادر يعني زيادة الباء في المبتدأ وكون المصدر على زنة المفعول وإليه ذهب الفراء ويؤيده قراءه ابن أبي عبلة في أيكم وأيا ما كان فالظاهر أن بأيكم المفتون معمول لما قبله على سبيل التنازع والمراد فستعلم