كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)
ويعلمون ذلك يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل وروي ذلك عن ابن عباس وقيل فستبصر ويبصرون في الدنيا بظهور عاقبة الأمر بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب وصيرورتك مهيبا معظما في قلوب العالمين وكونهم أذلة صاغرين ويشمل هذا ما كان يوم بدر وعن مقاتل أن ذلك وعيد بعذاب يوم بدر وقال أبو عثمان المازني أن الكلام قد تم عند قوله تعالى ويبصرون ثم استأنف قوله سبحانه بأيكم المفتون على أنه استفهام يراد الترداد بين أمرين معلوم نفي الحكم عن أحدهما وتعيين وجوده للآخر وهو كما ترى
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين استئناف لبيان ما قبله وتأكيد لما تضمنه من الوعد والوعيد أي هو سبحانه أعلم بمن ضل عن سبيله المؤدي إلى سعادة الدارين وهام في تيه الضلال متوجها إلى ما يقتضيه من الشقاوة الأبدية ومزيد النكال وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضر بل يحسب الضرر نفعا فيؤثره والنفع ضررا فيهجره وهو عز و جل أعلم بالمهتدين إلى سبيله الفائزين بكل مطلوب الناجين عن كل محذور وهم العقلاء المراجيح فيجزي كلا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب وفي الكشاف أن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون أو يكون وعيدا ووعدا وأنه سبحانه أعلم بجزاء الفريقين قال في الكشف هو على الأول تذييل مؤكد لما رمز إليه في السابق من أن المفتون من قرفك به جار على أسلوب المؤكد في عدم التصريح ولكن على وجه أوضح فإن قوله تعالى بأيكم المفتون لا تعيين فيه بوجه وهذا بدل هو أعلم بالمجنون وبالعاقل يدل على أن الجنون بهذا الإعتبار لا بما توهموه وثبت لهم صرف الضلال في عين هذا الزعم وعلى الثاني هو تذييل أيضا ولكن على سبيل التصريح لأن بمن ضل أقيم مقام بهم وبالمهتدين أقيم مقام بكم ولعل ماعتبرناه أملا بالفائدة وكأن تقديم الوعيد ليتصل بما أشعر به أولا والتعبير في جانب الضلال بالفعل للإيماء بأنه خلاف ما تقتضيه الفطرة وزيادة هو أعلم لزيادة التقرير مع الإيذان باختلاف الجزاء
والفاء في قوله تعالى فلا تطع المكذبين لترتيب النهي على ما ينبيء عنه ما قبله من اهتدائه صلى الله تعالى عليه وسلم وضلالهم أو على جميع ما فصل من أول السورة وهذا تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم وتصلب في ذلك وجوز أن يكون نهيا عن مداهنتهم ومداراتهم بإظهار خلاف ما في ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم استجلابا لقلوبهم لا عن طاعتهم حقيقة وينبيء عنه قوله تعالى ودوا لو تدهن لأنه تعليل للنهي أو للإنتهاء وإنما عبر عنها بالطاعة للمبالغة في التنفير أي أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور
فيدهنون أي فهم يدهنون حينئذ أو فهم الآن يدهنون طمعا في إدهانك فالفاء للسببية داخلة على جملة مسببة عما قبلها وقدر المبتدأ لمكان رفع بالفعل والفرق بين الوجهين أن المعنى على أنهم تمنوا لو تدهن فتترتب مداهنتهم على مداهنتك ففيه ترتب إحدى المداهنتين على الأخرى في الخارج ولو فيه غير مصدرية وعلى الثاني هي مصدرية والترتب ذهني على ودادتهم وتمنيهم وجوز أن تكون الفاء لعطف يدهنون على تدهن على أنه داخل معه في حيز لو متمني مثله والمعنى ودوا لو يدهنون عقيب إدهانك وما تقدم أبعد على القيل والقال وأيا ما كان فالمعتبر في جانبهم حقيقة الإدهان الذي هو إظهار الملاينة وإضمار خلافها وأما في جانبه عليه الصلاة و السلام فالمعتبر بالنسبة إلى ودادتهم هو إظهار الملاينة فقط وأما إضمار خلافها فليس في حيز الإعتبار بل هم في غاية الكراهة له وإنما اعتباره بالنسبة إليه عليه الصلاة و السلام وفي بعض المصاحف كما قال هارون فيدهنوا بدون نون الرفع فقيل هو منصوب في جواب التمني المفهوم من ودوا وقيل إنه عطف على تدهن بناء على أن لو بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا