كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)
أي سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة فهو كناية عما ذكر ولا منع من الحمل على الحقيقة وفي نسبة الجعل إلى الأصابع وهو منصوب إلى بعضها وإيثار الجعل على الإدخال ما لا يخفى
واستغشوا ثيابهم أي بالغوا في التغطي بها كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشاهم لئلا يروه كراهة النظر إليه من فرط كرهه الدعوة ففي التعبير بصيغة الإستفعال ما لا يخفى من المبالغة وكذا في تعميم آلة الإبصار وغيرها من البدن بالستر مبالغة في إظهار الكراهة ففي الآية مبالغة بحسب الكيف والكم وقيل بالغوا في ذلك لئلا يعرفهم عليه السلام فيدعوهم وفيه ضعف إنه قيل عليه أنه يأباه ترتبه على قوله كلما دعوتهم اللهم إلا أن يجعل مجازا عن إرادة الدعوة وهو تعكيس للأمر وتخريب للنظم
وأصروا أي أكبوا على الكفر والمعاصي وانهمكوا وجدوا فيها مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه أي رفعهما ونصبهما مستويين وأقبل عليها يكدمها ويطردها وفي ذلك غاية الذم لهم وعن جار الله لو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار لكفى به مزجرة كيف والتشبيه في أسوأ أحواله وهو حال الكدم والفساد وما ذكر من الإستعار قيل في أصل اللغة وقد صار الإصرار حقيقة عرفية في الملازمة والإنهماك في الأمر وقال الراغب الإصرار التعقد في الذنب والتشديد فيه والإمتناع من الإقلاع عنه وأصله من الصر أي الشد ولعله لا يأبى ما تقدم بناء على أن الأصل الأول الشد والأصل الثاني ما سمعت أولا
واستكبروا من اتباعي وطاعتي
استكبارا عظيما وقيل نوعا من الإستكبار غير معهود والإستكبار طلب الكبر من غير استحقاق له
ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا أي دعوتهم مرة بعد مرة وكرة غب كرة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة وهو تعميم لوجوه الدعوة بعد تعميم الأوقات وقوله ثم إني دعوتهم جهارا يشعر بمسبوقية الجهر بالسر وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو فثم لتفاوت الوجوه وإن الجهار أشد من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد وقال بعض الأجلة ليس في النظم الجليل ما يقتضي أن الدعوة الأولى كانت سرا فقط فكأنه أخذ ذلك من المقابلة ومن تقديم قوله ليلا وذكرهم بعنوان قومه وقوله فرارا فإن القرب ملائم له وجوز كون ثم على معناها الحقيقي وهو التراخي الزماني لكنه باعتبار مبدأ كل من الإسرار والجهار ومنتهاه وباعتبار منتهى الجمع بينهما لئلا ينافي عموم الأوقات السابق ويحسن اعتبار ذلك وإن اعتبر عمومها عرفيا كما في لا يضع العصا عن عاتقه وجهارا منصوب بدعوتهم على المصدرية لأنه أحد نوعي الدعاء كما نصب القرفصاء في قعدت القرفصاء عليها لأنها أحد أنواع القعود أو أريد بدعوتهم جاهرتهم أو صفة لمصدر محذوف أي دعوتهم دعاء جهارا أي مجاهرا بفتح الهاء به أو مصدر في موقع الحال أي مجاهرا بزنة اسم الفاعل
فقلت استغفروا ربكم بالتوبة عن الكفر والمعاصي فإنه سبحانه لا يغفر أن يشرك به وقال ربكم تحريكا لداعي الإستغفار
إنه كان غفارا دائم المغفرة كثيرها للتائبين كأنهم تعللوا وقالوا إن كنا على الحق فكيف نتركه وإن كنا على الباطل فكيف يقبلنا ويلطف بنا جل وعلا بعد ما عكفنا عليه دهرا طويلا فأمرهم بما يمحق ما سلف منهم من المعاصي ويجلب إليهم المنافع ولذلك وعدهم على الإستغفار بأمور هي أحب إليهم وأوقع في قلوبهم من الأمور الأخروية أعني ما تضمنه يرسل السماء الخ وأحبيتهم لذلك لما جبلوا عليه من محبة الأمور الدنيوية
والنفس مولعة بحب العاجل
قال قتادة كانوا أهل حب للدنيا فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها وقيل لما كذبوه عليه الصلاة و السلام بعد تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة وقيل سبعين سنة فوعدهم أنهم إن آمنوا يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما هم فيه وهو قوله يرسل السماء عليكم مدرارا