كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)

أي كثير الدر ورأي السيلان والسماء السحاب أو المطر ومن إطلاقها على المطر وكذا على النبات أيضا قوله
إذا نزل السماء بأرض قوم ... وعيناه وإن كانوا غضابا
وجوز أن يراد بها المظلة على ما سمعت غير مرة وهي تذكر وتؤنث ولا يأبى تأنيثها وصفها بمدرار إلا أن صيغ المبالغة كلها كما صرح به سيبويه يشترك فيها المذكر والمؤنث وفي البحر أن مفعالا لا تلحقه التاء إلا نادرا
ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات أي بساتين ويجعل لكم فيها أو مطلقا أنهارا جارية وأعاد فعل الجعل دون أن يقول يجعل لكم جنات وأنهارا لتغايرهما فإن الأول مما لفعلهم مدخل فيه بخلاف الثاني ولذا قال يمددكم بأموال وبنين ولم يعد العامل كذا قيل وهو كما ترى ولعل الأولى أن يقال أن الإعادة للإعتناء بأمر الأنهار لما أن لها مدخلا عاديا أكثريا وفي وجود الجنات وفي بقائها مع منافع أخر لا تخفى ورعاية لمدخليتها في بقائها الذي هو أهم من أصل وجودها مع قوة هذه المدخلية أخرت عنها وإن ترك إعادة العامل مع البنين لأنه الأصل أو لأنه لما كان الإمداد أكثر ما جاء في المحبوب ولا تكمل محبوبية كل من الأموال والبنين بدون الآخر ترك إعادة العامل بينهما للإشارة إلى أن التفضل بكل غير منغص بفقد الآخر وتأخير البنين قيل لأن بقاء الأموال غالبا بهم لا سيما عند أهل البادية مع رمز إلى الأموال تصل إليهم آخر الأمر وهو مما يسر المتمول كما لا يخفى فتأمل
وقال البقاعي المراد بالجنات والأنهار ما في الآخرة والجمهور على الأول وروي عن الربيع بن صبيح أن رجل أتى الحسن وشكا إليه الجدب فقال له استغفر الله تعالى وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له استغفر الله تعالى وأتاه آخر فقال ادع الله سبحانه أن يرزقني ابنا فقال له استغفر الله تعالى وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له استغفر الله تعالى فقلنا أتاك رجال يشكون ألوانا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالإستغفار فقال ما قلت من نفسي شيئا إنما اعتبرت قول الله عز و جل حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة و السلام أنه قال لقومه استغفروا ربكم الآية
ما لكم لا ترجون لله وقارا إنكارا لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وقارا على أن الرجاء بمعنى الخوف كما أخرجه الطستي عن ابن عباس مجيبا به سؤال نافع بن الأزرق منشدا قول أبي ذؤيب
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل
أو على أنه بمعنى الإعتقاد كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وجماعة وعبر به بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة ولا ترجون حال من ضمير المخاطبين والعامل فيها معنى الإستقرار في لكم على أن الإنكار متوجه إلى السبب فقط مع تحقق مضمون الجملة الحالية لا إليها معا ولله متعلق بمضمر وقع حالا من وقارا ولو تأخر لكان صفة له والوقار كما رواه جماعة عن الحبر بمعنى العظمة لأنه على ما نقل الخفاجي عن الإنتصاف ورد في صفاته تعالى بهذا المعنى ابتداء أو لأنه بمعنى التؤدة لكنها غير مناسبة له سبحانه فأطلقت باعتبار غايتها وما يتسبب عنها من العظمة في نفس الأمر أو في نفوس أي سبب حصل لكم حال كونكم غير خائفين أو غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه سبحانه بالإيمان به جل شأنه والطاعة له تعالى
وقد خلقكم أطوارا أي والحال أنكم على حال منافية لما أنتم عليه بالكلية وهو أنكم تعلمون أنه عز و جل خلقكم مدرجا لكم في حالات عناصر ثم أغذية ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم خلقا آخر فإن التقصير في توقير من هذا شأنه في القدرة القاهرة والإحسان التام مع العلم بذلك مما لا يكاد يصدر عن العاقل فالجملة حال من فاعل لا ترجون مقررة للإنكار والأطوار والأحوال المختلفة وأنشدوا قوله
فإن أفاق فقد طارت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار

الصفحة 73