كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)
ويخرجكم منها عند البعث والحشر
إخراجا محققا لا ريب فيه وعطف يعيدكم بثم لما بين الإنشاء والإعادة من الزمان المتراخي الواقع فيه التكليف الذي به استحقواالجزاء بعد الإعادة وعطف يخرجكم بالواو دون ثم مع أن الإخراج كذلك لأن أحوال البرزخ والآخرة في حكم شيء واحد فكأنه قضية واحدة ولا يجوز أن يكون بعضها محقق لوقوع دون بعض بل لا بد أن تقع الجملة لا محالة وإن تأخرت عن الإبداء
والله جعل لكم الأرض بساطا تتقلبون عليها كالبساط وليس فيه دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية كما في البحر وغيره لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحا ثم أن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بأمر لازم في الشريعة لكن كريتها كالأمر اليقيني وإن لم تكن حقيقة ووجه توسيط لكم بين الجعل ومفعوله الصريح يعلم مما مر غير مرة
لتسلكوا منها سبلا طرقا فجاجا واسعات جمع فج فهو صفة مشبهة نعت لسبلا وقال غير واحد هو اسم للطريق الواسعة وقيل اسم للمسلك بين الجبلين فيكون بدلا أو عطف بيان ومن متعلقة بما قبلها لتضمنه معنى الإتخاذ وإلا فهو يتعدى بفي أو بمضمر هو حال من سبلا أي سبلا كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها
قال نوح أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه عز و جل أي قال عليه السلام مناجيا له تعالى شاكيا إليه عز و جل
رب إنهم عصوني أي داموا على عصياني فيما أمرتهم به مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة والتذكير
واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا أي واستمروا على اتباع رؤسائهم الذين أبطرتهم أموالهم وغرتهم أولادهم وصار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة فصاروا أسوة لهم في الخسار والظاهر أن اتباع عامتهم وسفلتهم لأولئك الرؤساء وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد لا لما شاهدوا فيهم من شبهة مصححة للإتباع في الجملة وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير وأبو عمرو ونافع في رواية خارجة عنه وولده بضم الواو وسكون اللام فقيل هو مفرد لغة في ولد بفتحهما كالحزن والحزن وقيل جمع له كالأسد والأسد وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة والدة بكسرها وولد بالضم انتهى
وقرأ بالكسر والسكون الحسن أيضا والجحدري وقتادة وذر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية
ومكروا عطف على صلة من الجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار لفظها وكان فيه إشارة إلى اجتماعهم في المكر ليكون أشد وأعظم وقيل عطف على عصوني والأول أنسب لدلالته على أن المتبوعين ضموا إلى الضلال الإضلال وهو الأوفق بالسياق فإن المتبادر أن ما بعده من صفة الرؤساء أيضا واعتبار ذلك العطف على أن المعنى مكر بعضهم ببعض وقال بعضهم لبعض خلاف المتبادر
مكرا كبارا أي كبيرا في الغاية فهو من صيغ المبالغة قال عيسى بن عمر وهي لغة يمانية وعليها قول الشاعر
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم القراء
وقوله
والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء
وقد سمع بعض الأعراب الجفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ هذه الآية فقال ما أفصح ربك يا محمد وإذا اعتبر التنوين في مكرا للتفخيم زاد أمر المبالغة في مكرهم أي كبيرا في الغاية وذلك احتيالهم في الدين وصدهم للناس عنه وإغراءهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال كبارا بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة أيضا إلا أنها دون