كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)
وبيان لحكمها ولذا لم يعطف عليها فالمراد وصفه عز و جل بالتعالي عن الصحابة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه سبحانه وتعالى وكأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه سبحانه بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزهوه تعالى عنه وقرأ حميد بن قيس جد بضم الجيم قال في البحر ومعناه العظيم حكاه سيبويه وإضافته إلى ربنا من إضافة الصفة إلى الموصوف والمعنى تعالى ربنا العظيم وقرأ عكرمة جد منونا مرفوعا ربنا بالرفع وخرج على أن الجد بمعنى العظيم أيضا وربنا خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو بدل من جد وقرأ أيضا جدا منونا منصوبا على أنه تميز محول عن الفاعل وقرأ هو أيضا وقتادة جدا بكسر الجيم والتنوين والنصب ربنا بالرفع قال ابن عطية نصب جدا على الحال والمعنى تعالى ربنا حقيقة ومتمكنا وقال غيره هو صفة لمصدر محذوف أي تعاليا جدا وقرأ ابن السميفع جدا ربنا أي جداوه ونفعه سبحانه وكان المراد بذلك الغني فلا تغفل
وأنه كان يقول سفيها هو إبليس عند الجمهور وقيل مردة الجن والإضافة للجنس والمراد سفهاؤنا
على الله شططا أي قولا ذا شطط أي بعد عن القصد ومجاوزة الحد أو في نفسه شطط لفرط بعده عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه عز و جل وتعلق الإيمان والتصديق بهذا القول بناء على ما يقتضيه العطف على ما في حيز فآمنا ليس باعتبار نفسه فإنهم كانوا عالمين بقول سفيههم من قبل بل باعتبار كونه شططا كأنه قيل وصدقنا أن ما كان يقول سفيهنا في حقه سبحانه كان شططا
وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيههم أي كنا نظن أن لن يكذب على الله تعالى أحد فينسب إليه سبحانه الصاحبة والولد ولذلك اعتقدنا صحة قول السفيه ولعل الإيمان متعلق بما يشعر به كلامهم هذا وينساق إليه من خطئهم في ظنهم كأنه قيل وصدقنا بخطئنا في ظننا الذي لأجله اعتقدنا ما اعتقدنا وكذبا مصدر مؤكد لتقول لأنه نوع من القول كما في قعدت القرفصاء أو وصف لمصدر محذوف أي قولا كذبا أي مكذوبا لأنه لا يتصور صدور الكذب منه وإن اشتهر توصيفه به كالقائل وجوز أن يكون من الوصف بالمصدر مبالغة وهي راجعة دون المنفي وقرأ الحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم مضارع تقول وأصله تتقول بتاءين فحذفت أحدهما فكذبا مصدر مؤكد لأن الكذب هو التقول
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك يريد الجن وكبيرهم فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الجن والإنس وذلك قوله تعالى
فزادهم أي زاد الرجال العائذون الجن
رهقا أي تكبرا وعتوا فالضمير المرفوع لرجال الإنس إذ هم المحدث عنهم والمصوب لرجال الجن وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير وجماعة إلا أن منهم من فسر الرهق بالإثم وأنشد الطبري لذلك قول الأعشى
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... لا يشتقي وامق ما لم يصب رهقا
فإنه أراد ما لم يغش محرما فالمعنى هنا فزادت الإنس والجن مأثما لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالا لمحارم الله تعالى أو فزاد الجن العائذين غيا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم فالضميران على عكس ما تقدم وهو قول قتادة وأبي العالية والربيع وابن زيد والفاء على الأول للتعقيب وعلى هذا قيل للترتيب الإخباري وذهب الفراء إلا أن ما بعد الفاء قد يتقدم إذا دل عليه الدليل كقوله تعالى وكم من قرية أهلكنا فجاءها بأسنا وجمهور النحاة على خلافه وقيل في الكلام حذف أي فاتبعوهم فزادوهم والآية ظاهرة في أن لفظ الرجال يطلق على ذكور الجن كما يطلق على ذكور الإنس وقيل لا يطلق على ذكور الجن