كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)
في موضعه وذكروا وجدانهم المقاعد مملوءة من الحراس ومنع الإستراق بالكلية قيل بيان لما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستمعوا قراءته عليه الصلاة و السلام
وقولهم وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بحراسة السماء
أم أراد بهم ربهم رشدا أي خيرا كالتتمة لذلك فالحامل في الحقيقة تغيير الحال عما كانوا ألفوه والإستشعار أنه لأمر خطير والتشوق إلى الإحاطة به خبرا ولا يخفى ما في قولهم أشر أريد الخ من الأدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله عز و جل كما صرحوا به في الخير وإن كان فاعل الكل هو تعالى ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الإعتقاد
وأنا منا الصالحون أي الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم وفي معاملتهم مع غيرهم المائلون إلى الخير والصلاح حسبما تقتضيه الفطرة السليمة لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة
ومنا دون ذلك أي قوم دون ذلك المذكور ويطرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بمن مقدم عليه والصفة ظرف كما هنا أو جملة كما في قوله منا أقام ومنا ظعن وأرادوا بهؤلاء القوم المقتصدين في صلاح الحال على الوجه السابق لا في الإيمان والتقوى كما قيل فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن كما يعرب عنه قوله تعالى
كنا طرائق قددا وأما حالهم بعد استماعه فستحكى بقوله تعالى وإنا لما سمعنا الهدى إلى قوله تعالى وإنا منا المسلمون الخ وجوز بعضهم كون دون بمعنى غير فيكون دون ذلك شاملا للشرير المحض وأيا ما كان فجملة كنا الخ تفسير للقسمة المتقدمة لكن قيل الأنسب كون دون بمعنى غير والكلام على حذف مضاف أي كنا ذوي طراق أي مذاهب أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت بطرائقنا طرائق قددا وكون هذا من تلقي الركبان لا يلتفت إليه وعدم اعتبار التشبيه البليغ ليستغني عن تقدير مثل قيل لأن المحل ليس محل المبالغة وجوز الزمخشري كون طرائق منصوبا على الظرفية بتقدير في أي كنا في طرائق وتعقب بأن الطريق اسم خاص لموضع يستطرق فيه فلا يقال للبيت أو المسجد طريق على الإطلاق وإنما يقال جعلت المسجد طريقا فلا ينتصب مثله على الظرفية إلا في الضرورة وقد نص سيبويه على أن قوله
كما عسل الطريق الثعلب
شاذ فلا يخرج القرآن الكريم على ذلك وقال بعض النحاة هو ظرف عام لأن كل موضع يستطر قطري والقدد المتفرقة المختلفة قال الشاعر
القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
جمع قدة من قد إذا قطع كأن كل طريق لامتيازها مقطوعة من غيرها
وأنا ظننا أي علمنا الآن
أن لن نعجز الله أي أن الشأن لن نعجز الله تعالى كائبين
في الأرض أي أينما كنا من أقطارها
ولن نعجزه هربا أي هاربين منها إلى السماء فالأرض محمولة على الجملة ولما ولن الخ في مقابلة ما قبل لزم أن يكون الهرب إلى السماء وفيه ترق ومبالغة كأنه قيل لن نعجزه سبحانه في الأرض ولا في السماء وجوز أن لا ينظر إلى عموم ولا خصوص كما في أرسلنا العراك ويجعل الفوت على قسمين أخذا من لفظ الهرب والمعنى لن نعجزه سبحانه في الأرض إن أراد بنا أمرا ولن نعجزه عز و جل هربا بأن طلبنا وحاصله أن طلبنا لم نفته وإن هربنا لم نخلص منه سبحانه وفائدة ذكر الأرض تصوير أنها مع هذه البسطة والعراضة ليس فيها منجا منه تعالى ولا مهرب لشدة قدرته سبحانه وزيادة تمكنه جل وعلا ونحوه قول القائل
وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقيل فائدة ذكر الأرض تصوير تمكنهم عليها وغاية بعدها عن محل استوائه سبحانه وتعالى وليس بذاك وكون في الأرض