كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)
لطعام المقدر إذ التقدير ليس لهم ذعام إلا طعام من ضريع والمعنى قريب مما ذكر ولا يجوز كونه صفة للمذكور إذ لا يدل حينئذ على أن طعامهم منحصر في الضريع بل يدل على أن ما لا يسمن ولا يغني من طعامهم منحصر فيه ويفسد المعنى وأما لا محل له من الإعراب على أنه مستأنف والأول أظهر ويروي أن كفار قريش قالوا صدر الآية أن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت لا يسمن الخ قيل فلا يخلوا إما أن يتكذبوا أو يتعنتوا بذلك وهو الظاهر فيرد قولهم بنفي السمن والشبع وأما أن يصدقوا فيكون المعنى إن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو غير مسمن ولا مغن من جوع وعلى الأول هو صفة مؤكدة ردا لما زعموه لا كاشفة إذ لا خفاء وعلى الثاني هو صفة مخصصة وأيا ما كان فتنكير الجوع للتحقير أي لا يغني من جوع ما وتأخير نفي الإغناء عنه لمراعاة الفواصل والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين إذ لو قدم لما احتيج إلى ذكر نفي الإسمان ضرورة استلزام نفي الإغناء من الجوع إياه ولذلك كرر لا لتأكيد النفي وفي الإرشاد أن نفي الأمرين عنه ليس على أن لهم استعدادا للشبع والسمن إلا أنه لا يفيد شيئا منهما بل على أنه لا استعداد من جهتهم ولا إفادة من جهته ذلك أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيلما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإنسان عند استدعاء الطبيعة لبدل ما يتحلل من البدن مشوقة له إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل والشرب ويستغني بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمنا عند انهضامهما بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند اضطرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب وأما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما والتذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير واستفادة قوة فهيهات وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونه مخ إلى شيء مائع بارد ليطفؤه من غير أن يكون لهم التذاذ بشربه أو استفادة قوة به في الجملة وهو المعنى بما روي أنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرون إلى أكل الضريع فإذا أكلوه سلط عليهم العطش فاضطروا إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم أعاذنا الله تعالى وسائر المسلمين من ذلك انتهى وهو خلاف الظاهر ومثله لا يقال عن الرأي له فيما وقفنا عليه مستند يؤول لأجله الظواهر فالحق أن لهم جوعا وعطشا وشهوة إلى الطعام والشراب كما أن للجائع والعطشان في الدنيا شهوة إليهما لكنهما لهم هناك قد بلغا الغاية بتسليط الله تعالى عز و جل بدون سبب عادي على نحو ما في الدنيا فيضطرون لذلك إلى الضريع والحميم كما يضطر من إفرط فيه الجوع والعطش في الدنيا إلى تناول الكريه البشع من المطعوم والمشروب لكنهم لا ينتفعون بما يتناولونه بل يزدادون به عذابا فوق العذاب نسأل الله تعالى العفو والعافية بمنه وكرمه وقوله تعالى وجوه يومئذ ناعمة شروع في رواية حديث أهل الجنة وتقديم حكاية أهل النار لأنه أدخل في تهويل الغاشية وتفخيم حديثها ولأن حكاية حسن حال أهل الجنة بعد حكاية سوء حال أهل النارؤ مما يزيد المحكي حسنا وبهجة والكلام في إعرابه نظير ما تقدم وإنمالم تعطف هذه الجملة على تلك الجملة إيذانا بكمال تباين مضمونيها والناعمة إما من النعومة وكنيبها عن البهجة وحسن المنظر أي وجوه يومئذ ذات بهجة وحسن كقوله تعالى تعرف في وجوههم نضرة النعيم أو من النعيم أي وجوه يومئذ متنعمة لسعيها أي لعملها الذي عملته في دار الدنيا وهو متعلق بقوله تعالى راضية والتقديم للإعتناء مع رعاية الفاصلة واللام ليست للتعليل بل مثلها في رضيت بكذا قيل راضية بسعيها وذكر بعض المحققين أنها مقوية لتعدي الوصف بنفسه ولذا قال سفيان في ذلك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم رضيت عملها ورضاها به كناية أو مجاز عن أنه محمود العاقبة مجازي عليه أعظم الجزاء وأحسنه