كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)

حسن بل هو أرجح من الأول على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وخارجة عن أبي عمرو لا يعذب ولا يوثق بالبناء للمفعول فالهاء في عذابه ووثاقه للأنسان الموصوف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وشقاقه ونصب العذاب على المصدرية واقع موقع التعذيب أما لأنه بمعناه في الأصل كالسلام بمعنى التسليم ثم نقل إلى ما يعذب به أو لأنه وضع موضعه كما يوضع العطاء موضع الإعكطاء وكذلك الوثاق وجوز أن يكون المعنى لا يحمل أعذاب الأنسان أحد ولا يوثق وثاقه أحد كقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى والعذاب عليه جار على المتعارف والنصب على تضمين التعذيب معنى التحميل والأول أنسب بمقام التغليظ على هذا الإنسان المفرط أو أن التمكن والوجه الثاني للقراءة الأولى مطابق لهذا كما لا يخفى والمراد من أنه لا يعذب أحد مثل عذابه أنه لا يعذب أحد من جنسه كالعصاة كذلك فلا يلزم كونه أشد عذابا من إبليس ومن في طبقته ثم الظاهر أن المراد جنس المتصف بما ذكر وقيل المراد به أمية ابن خلف وقيل أبي بن خلف وهو خلاف الظاهر وإن قيل أن الآية نزلت فيمن ذكر وأما القول بأن هذا المعذب الموثق إبليس عليه اللعنة فليس بشيء إذ لا يقال له إنسان وكون الضمير له وإن لم يسبق له ذكر لا للإنسان المذكور في قوله تعالى يومئذ يتذكر الإنسان الخ مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وقرأ أبو جعفر وشيبة بخلاف عنه وثاقه بكسر الواو وقوله تعالى يا أيها النفس المطمئنة الخ حكاية لا حوال من اطمأن بذكر الله تعالى وطاعته عز و جل أثر حكاية من اطمأن بالدنيا وسكن إليها وذكر أنه على إرادة القول أي يقول الله تعالى يا أيتها النفس الخ إما بالذات كما كلم سبحانه موسى عليه السلام أو على لسان الملك واستظهر أن ذلك القول عند تمام الحساب ولينظر التفاوت ما بين ذلك الإنسان وهذه النفس ذاك يقول يا ليتني قدمت لحياتي وهذه يقول الله تعالى لها يا أيتها النفس المطمئنة الخ وكأنه للإيذانبغاية التباين لم يذكر القول وتعطف الجملة على الجملة السابقة والنفس قيل بمعنى الذات ووصفت بالأطمئنان بذلك لأنها لترقي بقوتها العاقلة في معارج الأسباب والمسببات إلى المبدأ المؤثر بالذات جلت صفاته وأسماؤه فتطرب وتقلق قبل الوصول إلى معرفته تعالى فإذا وصلت إليه عز و جل اطمأنت واستغنت به سبحانه عن وجودها وسائر شؤنها ولم تلتفت إلى ما سواه جل وعلا بالكلية وقيل هي النفس المؤمنة المطمئنة إلى الحق الواصلة إلى ثلج اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك ما ولا يمازجها سخونة اضطراب القلب في الحق أصلا وهو وجه حسن والأرتباط عليه أن هذه النفس هي المتعظة الذاكرة على خلاف الإنسان الموصوف فيما قبل فإن التذكر على قدر قوة اليقين ألا ترى إلى قوله تعالى إنما يتذكر أولوا الألباب وقيل هي الأمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن يوم القيامة أعني النفس المؤمنة اليوم المتوفاة على الإيمان وأيد بقراءة أبي يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة وكأنه لأن الوصفين يعتبر تناسبهما في الأكثر وهي على هذا أيضا تقابل السابق المتحسر المتحزن وقرأ زيد على يا أيها بغير تاء وذكر صاحب البديع أن أيا قد تذكر مع المنادى المؤنث قيل ولذلك وجه من القياس وذلك أنها كما لم تثن ولم تجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم تؤنث في نداء المؤنث واعتبار النفس ههنا مذكرة ثم مؤنثة مما لا تلتفت إليه النفس المطمئنة إرجعي أي من حيث حوسبت إلى ربك أي إلى محل عنايته تعالى وموقف كرامته عز و جل لك أولا وهذا لأن للسعداء قبل الحساب كما يفهم من الأخبار موقفا في المحشر مخصوصا يكرمهم الله تعالى به لا يجدون فيه ما يجده غيرهم في مواقفهم من النصب ومنه ينادي الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب

الصفحة 130