كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)

للتعجيب على معنى أيظن أن لن يقدر عليه أي على الأنتقام منه ومكافأته بما هو عليه أحد مع أنه ذلا يتخلص من المكابدة ومقاساة الشدائد وإن مخففة من الثقيلة ولعل في ذلك إدماج عدم إيمان بالقيامة يقول أهلكت مالا لبدا أي كثيرا من تلبد الشيء إذا اجتمع أي يقول ذلك وقت الأغترار فخرا ومباهاة وتعظما على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة وعبر عن الأنفاق بالإهلاك إظهارا لعدم الأكتراث وأنه لم يفعلذلك رجاء نفع فكأنه جعل المال الكثير ضائعا وقيل ذلك إظهارا لشدة عداوته لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مربدا بالمال ما أنفقه في معاداته عليه الصلاة و السلام وقيل يقول ذلك إيذاء له عليه الصلاة و السلام فعن مقاتل أن الحرث بن نوفل كان إذا أذنب استقتى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فيأمره عليه الصلاة و السلام بالكفارة فقال لقد أهلكت مالا لبدا في الكفارات والتبعات منذ أطعت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل المراد ما تقدم أولا إلا أن هذا القول وقت الأنتقام منه وذلك يوم القيامة والتعبير عن الأنفاق بالأهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ وقرأ أبو جعفر لبدا بشد الباء وعنه وعن زيد بن علي لبدا بسكون الباء وقرأ مجاهد وابن أبي الزناد لبدا بضم اللام والباء أيحسب أن لم يره أحد أي حين كان ينفق ما ينفق رئاه الناس أو حرصا على معاداته صلى الله تعالى عليه وسلم يعني أن الله تعالى كان يراه وكان سبحانه عليه رقيبا فهو عز و جل يسأله عنه ويجازيه عليه وفي الحديث لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن ماله مم جمعه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به وجوز أن يكون المعنى إن لم يجده أحد على أن المراد بالرؤية الوجدان اللازم له ولم بمعنى لن وعبر بها لتحقق الوقوع يعني أنه تعالى يجده يوم القيامة فيحاسبه على ذلك وعن الكلبي أن هذا القائل كان كاذبا لم ينفق شيئا فقال تعالى أيظن أن الله تعالى ما رأى ذلك منه فعل أو لم يفعل انفق أو لم ينفق بل رآه عز و جل وعلم منه خلاف ما قال وقرر سبحانه القدرة على مجازاته والأطلاع على حاله بقوله جل وعلا ألم نجعل له عينين يبصر بهما ولسانا يفصح به عما في ضميره وشفتين يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك والمفرد شفة وأصلها شفهة حذفت منها الهاء وبدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء وإن كان فيه تاء التأنيث على ما في البحر وهديناه النجدين أي طريقي الخير والشر كما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس وروي عن عكرمة والضحاك وآخرين وأخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعا والنجد مشهور في الطريق المرتفع قال امرؤ القيس فريقان منهم جازع بطن نخلة
وآخر منهم قاطع نجد كبكب وسميت نجد به لارتفاعها عن انخفاض تهامة والأمتنان المحدث عنه بأن هداه سبحانه وبين له تعالى شأنه ما أن سلكه نجا وما أن سلكه هلك ولا يتوقف الأمتنان على سلوك طريق الخير وقد جعل الإمام هذه الآية كقوله تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدة ظاهر بخلاف سبيل الشرفان فيه هبوطا من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعودا ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله كذا قيل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنهما الثديان روي ذلك عن ابن المسيب أي ثدي الأمام كالطريقين لحياة الولد ورزقه والأرتفاع فيهما ظاهر والبطن تحتهما كالغور والعرب تقسم بثديي الأم فتقول أما ونجديها ما فعلت ونسب هذا التفسير لعلي كرم الله

الصفحة 136