كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)
لا يجنبها ولا بد على معنى أنه يجوز أن يجنبها ويجوز أن لا يجنبها بل يدخلها غير صال بها وقرر الزمخشري الأستشكال بأنه قد علم أن كل شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص الصلي بأشقى الأشقياء ولا التجنب والنجاة بأتقى الأتقياء وظاهر الجملتين ذلك وأجاب بما حاصله أن الحصر حيث كانت الآية واردة للموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ادعائي مبالغة لا حقيقي كان غير هذا الأشقى غير صال وغير هذا الأتقى غير مجنب بالكلية واستحسنه في الكشف فقال هو حسن وأنت تعلم أن مبني ما قاله على الأعتزال وتخليد العصاة في النار وقال القاضي أن قوله تعالى لا يصلاها لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكفار كما يقول المرجئة وذلك لأنه تعالى نكر النار فيها إن نارا من النيران لا يصلاها إلا من هذه حاله والنار دركات على ما علم من الآيات فمن أين عرف أن هذه النار لا يصلاها قوم آخرون وتعقبه الزمخشري بأنه ما يصنع عليه بقوله تعالى وسيجنبها الأتقى فقد علم أن فسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منمهم خاصة وأجيب بأنه لعل هذا القائل لا يقول بمفهوم الصفة ونحوها فلا تفيد الآية المذكورة عنده الحصر ويكون تمييز هذا الأتقى عنده بمجموع التجنب وما سيذكر بعد ولعل كل من لا يقول بالمفهوم لا يشكل عليه الأمر إلا أمر الحصر في لا يصلاها الخ فإنه كالنص في باديء النظر فيما يدعيه المرجئة لحملهم الصليفيه على مطلق الدخول وأيدوه بما أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يدخل النار إلا من شقى قيل ومن الشقي قال الذي لا يعمل لله تعالى طاعة ولا يترك لله تعالى معصية وهذا الخبر ونحوه من الأخبار مما يستندون إليه في تحقيق دعوام وأهل السنة يؤولون ما صح من ذلك للنصوص الدالة على تعذيب بعض ممن ارتكب الكبيرة على ما بين في موضعه وقيل في الجواب أن المراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي وشاع أفعل في مثل ذلك ومنه قول طرفة تمنى رجال أن أموت فإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد فإنه أراد بواحد واعترض بأنه لا يحسم مادة الإشكال إذ ذلك الشقي في الآية ليس إلا الكافر فيلزم الحصر أن لا يدخل النار أو لا يعذب بها غيره مع أنه خلاف المذهب الحق وأيضا إن ذلك التقي فيها قد وصف بما وصف فعلى القول بالمفهوم يلزم أن لا يجنبها التقي الغير الموصوف بذلك كالتقي الذي لا مال له وكغيره المكلفين من الأطفال والمجانين مع أن الحق أنهم يجتبونها وقيل غير ذلك ولعلك بعد الإطلاع عليه وتدقيق النظر في جميع ما قيل واستحضار ماعليه الجماعة في أهل الجمع تستحسن أن قلت بالمفهوم صاحب الكشف مما مر عن الزمخشري وأن لم تكن منيقول بتخليد أهل الكبائر من المؤمنين فتأمل وجنب يتعدى إلى مفعولين فالضمير ههنا المفعول الثاني والأتقى المفعول الأول وهو النائب عن الفاعل ويقال جنب فلان خيرا وجنب شرا وإذا أطلق فقيل جنب فلان فمعناه على ما قال الراغب أبعد عن الخير وأصل جنبته كما قيل جعلته على جانب منه وكثيرا ما يراد منه التبعيد ومنه ما هنا ولذا قلنا أي سيبعد عنها الأتقى الذي يؤتي ماله أي يعطيه ويصرفه يتزكى طالبا أن يكون عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريد به رياء ولاسمعة أومتطهرا من الذنوب فالجملة نصب على الحال من ضمير يؤتي وجوز أن تكون بدلا من الصلة فلا محل لها من الإعراب وجوز أيضا أن يكون الفعل وحده بدلا من الفعل السابق وحده واعترض كلا الوجهين بأن البدل من قسم التابع المعرف بكل ثان اعرب بإعراب سابقه ولا إعراب للصلة حتى يثبت لها تابع فيه وسبب الإعراب وهو الرفع فيالفعل متوفر مع قطع النظر عن التبعية وهو على المشهور تجرده عن الناصب والجازم فليس معربا بإعراب سابقه لظهور