كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)

ونحوها ما دل على أن قائل ذاك خديجة رضي الله تعالى عنها أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عروة قال ابطأ جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة أرى ربك قد قلاك مما أرى من جزعك فنزلت والضحى والليل إلى آخرها والوق بأنها رضي الله تعالى عنها أرادت أن هذا الجزع لا ينبغي أن يكون إلا من قلى ربك وحاشى أي يقلاك فما هذا الجزع بعيد غاية البعد والمعول ما عليه الجمهور وصحت به الأخبار أن القائل هم المشركون وأنه عليه الصلاة و السلام إنما أحزنه بمقتضى الطبيعة البشرية تعبيرهم وعدم رؤية جبريل عليه السلام مع مزيد حبه إياه وفي بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام ما جئتني حتى اشتقت إليك فقال جبريل عليه السلام كنت أنا إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا وما نتنزل إلا بأمر ربك وفي رواية أنه عاتبه عليهما الصلاة والسلام فقال أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة وراوي هذا يروي أن السبب في إبطاء الوحي وجود جرو في بيته عليه الصلاة و السلام والروايات في ذلك مختلفة وجوز بعضهم أن يكون الإبطاء لتجمع الأسباب ثم أنه قد زعم بعض بناء على بعض الروايات السابقة جواز أن يكون المراد بربك في ما وعدك ربك دون ما بعد صاحبك والمراد به جبريل عليه السلام وهو كما ترى وحيث تضمن ما سبق من نفي التوديع والقلي أنه عز و جل لا يزال يواصله عليه الصلاة و السلام بالوحي والكرامة في الدنيا بشر صلى الله تعالى عليه وسلم بأن ما سيؤتاه في الآخرة أجل وأعظم من ذلك وللآخرة خير لك من الأولى لما أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي عليه الصلاة و السلام من شرف النبوة وإن كان مما لا يعاد شرف ولا يدانيه فضل لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض القادحة في تمشية الأحكام مع أنه عندما أعد له عليه الصلاة و السلام في الآخرة من السبق والتقدم على كافة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يوم الجمع يوم يقوم الناس لرب العالمين وكون أمته صلى الله تعالى عليه وسلم شهداء على سائر الأمم ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تحيط بها العبارات وتقصر دونها الإشارات بمنزلة بعض المباديء بالنسبة إلى المطالب كذا في الإرشاد والأختصاص الذي تقتضيه اللام قيل إضافي على معنى اختصاصه عليه الصلاة و السلام بخيرية الآخرة دون من أذاه وشمت بتأخير الوحي عنه عليه الصلاة و السلام ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين كيف وقد علم بالضرورة أن الخير المعد له عليه الصلاة و السلام خير من المعد لغيره على الإطلاق ويكفي في ذلك اختصاص المقام المحمود به صلى الله تعالى عليه وسلم على أن اختصاص اللام ليس قصريا كما قرر في موضعه وحمل الآخرة على الدار الآخرة المقابلة للدنيا والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا هو الظاهر المروي عن أبي إسحاق وقال ابن عطية وجماعة يحتمل أن يراد بهما نهاية أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وبدايته فاللام فيهما للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي لنهاية أمرك من بدايته لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد رفعة وفي بعض الأخبار المرفوعة ما هو أظهر في الأول أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرض على ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني فأنزل الله تعالى وللآخرة خير لك من الأولى ثم ربط الآية بما قبلها على الوجه الذي سمعت هو ما اختاره غير واحد من الأجلة وجوز أن يقال فيه أنه لما نزل ما ودعك ربك وما قلى حصل له عليه الصلاة و السلام به تشريف عظيم فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم استعظم ذلك فقيل له وللآخرة خير لك من الأولى على معنى أن هذا التشريف وأن كان عظيما إلا أن مالك عند الله تعالى في الآخرة خير وأعظم

الصفحة 158