كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)
شفقته العظيمة عليه الصلاة و السلام على أمته فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا عليهم رؤفا بهم مهتما بأمرهم وقد أخرج مسلم كما في الدر المنثور عن ابن عمر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام فمن تبعني فإنه مني وقوله تعالى في عيسى أن تعذبهم فإنهم عبادك الآية فرفع عليه الصلاة و السلام يديه وقال اللهم أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له إنا سنرضيك في أمتك يخفى ولا نسوءك وفي إعادة اسم الرب مع إضافته إلى ضميره عليه الصلاة و السلام ما لا يخفى أيضا من اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله تعالى ألم يجدك يتيما فآوى تعديل لما أفاض عليه صلى الله تعالى عليه وسلم من أول أمره إلى وقت النزول من فنون النعماء العظام لستشهد بالخاص الموجود على المترقب الموعود فيزداد قلبه الشريف وصدره الرحيب طمأنينة وسرورا وانشراحا وحبورا ولذا فصلت الجملة والهمزة لأنكار النفي وتقرير على أبلغ وجه كأنه قيل قد وجدك الخ وودته على ما قال الرضي بمعنى أصبته على صفة ويراد بالوجود فيه العلم مجازا بعلاقة اللزوم وفي مفردات الراغب لوجود إضرب وجود بالحواس الظاهرة ووجود بالقوى الباطنة ووجود بالعقل وما نسب إلى الله تعالى من لوجود فبمعنى العلم المجرد إذ كان الله تعالى منزها عن الوصف بالجوارح والآلات وقد فسره بعضهم هنا بالعلم وجعل مفعوله الأول الضمير ومفعوله الثاني يتيما وبعضهم بالمصادقة وجعله متعديا لواحد ويتيما حالا وأنت تعلم أن المصادقة لا تصح في حقه تعالى لأنها ملاقاة ما لم يكن في علمه سبحانه وتقديره جل شأنه فلا بد من التجوز بها عن تعلق علمه عز و جل بذلك واليتم انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه والإيواء ضم الشيء إلى آخر يقال آوى إليه فلانا أي ضمه إلى نفسه أي ألم يعلمك طفلا لا أبالك فضمك إلى من قام بأمرك روي أن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله أبا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يمتار تمرا من يثرب فتوفي ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جنين قد أتت عليه ستة أشهر فلما وضعته كان في حجر جده مع أمه فماتت وهو عليه الصلاة و السلام ابن ست سنين ولما بلغ عليه الصلاة و السلام ثماني سنين مات جده فكلفه عمه الشفيق أبو طالب بوصية من أبيه عبد المطلب وأحسن تربيته صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الكشاف ماتت أمه عليه الصلاة و السلام وهو ابن ثماني سنين فكلفه عمه وكان شديد الأعتناء بأمره إلى أن بعثه الله تعالى وكان يرى منه صلى الله تعالى عليه وسلم في صغره ما لم ير من صغير أنه قال يوما لأخيه العباس ألا أخبرك عن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بما رأيت منه فقال بلى قال إني ضممته لي فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولم ائتمن عليه أحدا حتى أني كنت أنومه في فراشي فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهية في وجهه وكره أن يخالفني فقال يا عماه اصرف وجهك عني حتى أخلع ثيابي إني لا أحب أن تنظر إلى جسدي فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته في فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكثيرا ما كنت أفقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فراجع وكنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني وذلك عندما مضى بعض الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمد وكان يقول في أول الطعام بسم الله الأحد فإذا فرغ من طعامه قال الحمد لله فكنت أعجب منه ولم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية ولا وقف من الصبيان وهم يلعبون وهذا لعمري غيض من فيض في المهد يعرب عن سعادة جده
أثر النجابة ساطع البرهان