كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)

وقيل المعنى ألم يجدك يتيما أبتك المراضع فآواك من مرضعة تحنو عليك بأن رزقها بصحبتك الخير والبركة حتى أحبتك وتكفلتك والأول هو الظاهر وقيل غير ذلك مما ستعلمه بعد إن شاء الله تعالى ومن بدع التفاسير على ما قال الزمخشري أن يتيما من قولهم درة يتيمة والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير فآواك والأولى عليه أن يقال ألم يجدك واحدا عديم النظير في الخليقة لم يحو مثلك صدف إلا مكان فآواك إليه وجعلك في حق اصطفائه وقرأ أبو الأشعث فأوى ثلاثيا فجوز أن يكون من أواه بمعنى آواه وأن يكون من أوى له أي رحمه ومصدره أياواية وماوية وماوية وتحقيقه على ما قال الراغب أي رجع بقلبه ومنه قوله
أو أني ولا كفران لله أية
وقوله تعالى ووجدك ضآلا فهدى عطف على ما يقتضيه الإنكار السابق كما أشير إليه أو على المضارع المنفي بل داخل في حكمه كأنه قيل أما وجدك يتيما فآوى ووجدك غافلا عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول كما في قوله تعالى ما كنت تدري ما الكتاب وقوله سبحانه وإن كنت من قبله لمن الغافلين فهداك إلى مناهجها في تضاعيف ما أوحي إليك من الكتاب المبين وعلمك ما لم تكن تعلم وعلى هذا كما قال الواحدي أكثر المفسرين وهو اختيار الزجاج وروي سعيد بن المسيب أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فبينما هو راكب ناقة ذات ليلة ظلماء وهو نائم جاءه إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق فجاءه جبريل عليه الصلاة و السلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها بالحبشة ورده إلى القافلة فما في الآية إشارة إلى ذلك على ما قيل وقيل إشارة إلى ما روي عن ابن عباس من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ضل وهو صغير عن جده في شعاب مكة فرآه أبو جهل منصرفا من أغنامه فرده لجده وهو متعلق بإستار الكعبة يتضرع إلى الله تعالى في أن يرد إليه محمدا وذكر له أنه لما رآه أناخ الناقة وأركبه من خلفه فأبت أن تقوم فأركبه أمامه فقامت فكانت الناقة تقول يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى وفي إرجاعه عليه الصلاة و السلام إلى أهله على يد أبي جهل وقد علم سبحانه منه أنه فرعونه يشبه أرجاع موسى عليه السلام إلى أمه على يد فرعون وقيل ضل عليه الصلاة و السلام مرة أخرى وطلبوه فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا وتضرع إلى الله تعالى فسمعوا مناديا ينادي من السماء يا معشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه وأن محمدا بوادي تهامة عند شجرة السمر فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل فإذا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان والأوراق وقيل أضلته مرضعته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد المطلب فضالا على هذه الروايات من ضل في طريقه إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده وضعف حمل الآية على ذلك بأن مثله بالنسبة إلى ما تقدم لا يعد من نعم الله تعالى على مثل نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم التي يمتن سبحانه بها عليه وقيل الضال الشجرة المنفردة في البيداء ليس حولها شجر والمراد أما وجدك وحدك ليس معك أحد فهدى الناس إليك ولم يتركك منفردا وقال الجنيد قدس سره أي وجدك متحيرا في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه وفيه قرب ما من الأول وقال بعضهم وجدك غافلا عن قدر نفسك فأطلعك على عظيم محلك وقيل وجدك ضالا عن معنى محض المودة فسقاك كأسا من شراب القربة والمودة فهداك به إلى معرفته عز و جل وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه كنت ضالا عن محبتي لك في الأزل فمننت عليك بمعرفتي وهو قريب من سابقه وقال الحريري أي وجدك مترددا في غوامض معاني المحبة فهداك لها وهو أيضا كذلك وكل ذلك منزع صوفي ورأى أبو حيان في منامه أن الكلام على حذف مضاف والمعنى ووجد رهطك ضالا فهدى بك وهو كما ترى في يقظتك وقوله تعالى

الصفحة 162