كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)

عليه وسلم منه سبحانه مع ما في ذلك من التنبيه على قدرته تعالى على تعليم القراءة بالطف وجه وقيل لتأكيد عدم إرادة غيره تعالى من الرب فإن العرب كانت تسمي الأصنام أربابا لكنهم لا ينسبون الخلق إليها والفعل إما منزل منزلة اللازم أي الذي له الخلق أو مقدر مفعوله عاما أي الذي خلق كل شيء والأول يفيد العموم أيضا فعلى الوجهين يكون وجه تخصيص الإنسان بالذكر في قوله تعالى خلق الإنسان إنه أشرف المخلوقات وفيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه أدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة مع أن التنزيل إليه ويجوز أن يراد خلق الإنسان إلا أنه لم يذكر أولا وذكر ثانيا قصدا لتفخيمه بالإبهام ثم التفسير وعن الزمخشري أن المناسب أن يراد خلق الإنسان بعد الأمر بقراءة القرآن تنبيها على أنه تعالى خلقه للقراءة والدراية كما أن ذكر خلق الإنسان عقيب تعليم القرآن أول سورة الرحمن لنحو ذلك وقوله تعالى من علق أي دم جامد لبيان كمال قدرته تعالى بإظهار ما بين حالتيه الأولى والآخرة من التباين البين وأتى به دالا على الجمع لأن الإنسان مراد به الجنس فهو في معنى الجمع فأتى بما خلق منه كذلك ليطابقه مع ما في ذلك من رعاية الفواصل ولعله على ما قيل السر في تخصيص هذا الطور من بين سائر أطواره الفطرة الإنسانية مع كون النطفة والترب أدل على كمال القدرة لكونهما أبعد منه بالنسبة إلى الإنسانية وفي البحر لم يذكر سبحانه مادة الأصل يعني آدم عليه السلام وهو التراب لأن خلقه من ذلك لم يكن متقررا عند الكفار فذكر مادة الفرع وخلقه منها وترك مادة أصل الخلقة تقريبا لأفهامهم وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال وقيل خص هذا الطور تذكيرا له عليه الصلاة و السلام لما وقع من شرح الصدر قبل النبوة وإخراج العلق منه ليتهيأ تهيئا تاما لما يكون له بعد فكأنه قيل الذي خلق الإنسان من جنس ما أخرجه من صدرك الشريف ليهيئك بذلك لمثل ما يلقى إليك الآن وبهذا تقوى مناسبة هذه السورة لسورة الشرح قبلها أتم مناسبة لا سيما على تفسير الشرح بالشق فتدبره ومن الناس من زعم أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام وإن المعنى خلق آدم من طبق يعلق باليد وهو مما لا تعلق به يد القبول ولما كان خلق الإنسان أول النعم الفائضة عليه منه تعالى وأقدم الدلائل الدالة على وجوده عز و جل وكمال قدرته وعلمه وحكمته سبحانه وصف ذاته تعالى بذلك أولا ليستشهد عليه الصلاة و السلام به على تمكينه تعالى له القراءة ثم كرر جل وعلا الأمر بقوله تعالى اقرأ أي افعل ما أمرت به تأكيدا للأيجاب وتمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى وربك الأكرم الخ فإنه كلام مستأنف وأراد لإزاحة ما بينه صلى الله تعالى عليه وسلم من العذر بقوله عليه الصلاة و السلام لجبريل عليه السلام حين قال له اقرأ ما أنا بقاريء يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وأنا أمي فقيل وربك الذي أمرك بالقراءة مفتتحا ومبتدأ باسمه الأكرم الذي علم بالقلم أي علم ما علم بواسطة القلم لا غيره تعالى فكما علم سبحانه القاريء بواسطة الكتابة بالقلم يعلمك بدونها وحقيقة الكرم إعطاء ما ينبغي لا لغرض فهو صفة لا يشاركه تعالى في إطلاقها أحد فافعل للمبالغة وجوز أن لا يكون اقرأ هذا تأكيدا للأول وإنما ذكر ليوصل به ما يزيح العذر فجملة وربك الخ في موضع الحال من الضمير المستتر فيه وقوله تعالى علم الإنسان ما لم يعلم بدل اشتمال من علم بالقلم أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية ما لم يخطر بباله وفي حذف المفعول أولا وإيراده بعنوان عدم المعلومية ثانيا من الدلالة على كمال قدرته تعالى وكمال كرمه عز و جل والإشعار بأنه تعالى يعلمه عليه الصلاة و السلام من العلوم ما لا يحيط به العقول ما لا يخفى قاله في الإرشاد وقدر بعضهم مفعول علم الخط وجعل بالقلم متعلقا به وأيد بقراءة

الصفحة 180