كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)
جل وعلا وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الخ أي وما تفرقوا فعرف بعض منهم الحق وآمن وعرفه بعض آخر منهم وعاند فلم يؤمن في وقت من الأوقات إلا بعد ما جاءتهم البينة وطوى سبحانه ذكر حال المشركين لعلمه بالأولى من حالهم ثم أنه تعالى ذكر بعد حال من الفريقين المؤمن والكافر وما له في الآخرة بقوله سبحانه إن الذين كفروا الخ وقوله تعالى الذين آمنوا الخ والذين أميل إليه مما تقدم كون الإنفكاك عن الوعد باتباع الحق ولعل القرينة على اعتباره حالية ويحتمل نحوا آخر من التوجيه وذلك بأن الكلام من باب الأعمال فيقال أن منفكين يقتضي متعلقا هو المنفك عنه وتأتيهم يقتضي فاعلا وليس في الكلام سوى البينة فكل منهما يقتضيه فاعمل فيه تأتيهم وحذف معمول منفكين لدلالته عليه فكأنه قيل لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عن البينة حتى تأتيهم البينة وحيث كان المراد بالبينة الرسول كان الكلام في قوة لم يكونوا منفكين عن الرسول حتى يأتيهم ويراد بعدم الأنفكاك عن الرسول حيث لم يكن موجودا إذ ذاك عدم الأنفكاك عن ذكره والوعد باتباعه ويكون باقي الكلام في الآية على نحو ما سبق على تقدير إرادة منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق وإن شئت قلت في قوله تعالى وما تفرق الخ أنه على معنى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب عن الرسول وما انفكوا عنه بالأصرار على الكفر إلا من بعد ما جاءهم فتأمل جميع ما أتيناك به والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا والمراد بالأمر مطلق التكليف ومتعلقه محذوف واللام للتعليل والكلام في تعليل أفعاله تعالى شهير والأستثناء مفرغ من أعم العلل أي والحال أنهم ما كلفوا في كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله تعالى وقال الفراء العرب تجعل اللام موضع أن في الأمر كأمرنا لنسلم وكذا في الإرادة كيريد الله ليبين لكم فهي هنا بمعنى أن أي إلا بأن يعبدوا الله وأيد بقراءة عبد الله إلا أن يعبدوا فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها والأمر على ظاهره والأول هو الأظهر وعليه قال علم الهدى أبو منصور الماتريدي هذه الآية علم منها معنى قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي إلا لأمرهم بالعبادة فيعلم المطيع من العاصي وهو كما قال الشهاب كلام حسن دقيق مخلصين له الدين أي جاعلين دينهم خالصا له تعالى فلا يشركون به عز و جل فالدين مفعول لمخلصين وجوز أن يكون نصبا على إسقاط الخافض ومفعول مخلصين محذوف أي جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين وقراءة الحسن مخلصين بفتح اللام وحينئذ يتعين هذا الوجه في الدين ولا يتسنى الأول نعم جوز أن يكون نصبا على المصدر والعامل ليعبدوا أي ليدينوا الله تعالى بالعبادة الدين حنفاء أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام وفيه من تأكيد الإخلاص ما فيه فالحنف الميل إلى الأستقامة وسمي مائل الرجل إلى الأعوجاج أحنف للتفاؤل أو مجاز مرسل بمرتبتين وعن ابن عباس تفسير حنفاء هنا بحجاجا وعن قتادة بمختتنين محرمين لنكاح الأم والمحارم وعن أبي قلابة بمؤمنين بجميع الرسل عليهم السلام وعن مجاهد بمتبعين دين إبراهيم عليه السلام وعن الربيع بن أنس بمستقبلين القبلة بالصلاة وعن بعض بجامعين كل الدين وحال الأقوال لا يخفى ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر بهما ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم في كتابهم أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها وذلك إشارة إلى كا ذكر من عبادة الله تعالى بالأخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف دين القيمة أي الكتب القيمة