كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)
المذكورين وفيه شيء لا يخفى فتأمل وقيل ليس المراد بأولئك الذين كفروا أقواما مخصوصين وهم المحدث عنهم أولا بل الأعم الشامل لهم ولغيرهم من سالف الدهر إلى آخره وهو على ما فيه لا يتم بدون حمل البرية على البشر فلا تغفل وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع البريئة هنا وفيما بعد بالهمزة فقيل هو الأصل من برأهم الله تعالى بمعنى ابتدأهم واخترع خلقهم فهي فعيلة بمعنى مفعولة لكن عامة العرب إلا أهل مكة التزموا تسهيل الهمزة بالإبداء والإدغام فقالوا البرية كما قالوا الذرية والخابية وقيل ليس بالأصل وإنما البرية بغير همز من البري المقصور يعني التراب فهو أصل برأسه والقراءتان مختلفتان أصلا ومادة ومتفقتان معنى في رأي وهو أن يكون المراد عليهما البشر ومختلفتان فيه أيضا في رأي آخر وهو أن يكون المراد بالمهموز الخليقة الشاملة للملائكة والجن كالبشر وبغير المهموز البشر المخلوقان من التراب فقط وأيا ما كان فليست القراءة خطأ كيف وقد نقلت عمن ثبتت عصمته مع أن الهمز لغة قوم من أنزل عليه الكتاب صلى الله تعالى عليه وسلم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات بيان لمحاسن أحوال المؤمنين أثر بيان سوء حال الكفرة جريا على السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب أو هو على ما أشرنا إليه سابقا وقال عصام الدين إن قوله تعالى إن الذين كفروا الخ كالتأكيد لقوله تعالى وذلك دين القيمة إذ لا تحقيق لكونها الملة القيمة فوق أن يكون جزاء المعرض هذا وجزاء الممتثل ذلك إلا أن ذلك اقتضى قوله تعالى إن الذين آمنوا الخ وكأنه فصل لتخييل عدم المناسبة بين الجملتين لا في المسند إليه ولا في المسند أولئك أي المنعوتون بما هو الغاية القاضية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة هم خير البرية وقرأ حميد وعامر بن عبد الواحد هم خيار البرية وهو جمع خير كجياد وجيد جزاؤهم بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعات عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا تقدمت نظائره وفي تقديم مدحهم بخير البرية وذكر الجزاء المؤذن يكون ما منح في مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما وتأكيد الخلود بالأبود من الدلالة على غاية حسن حالهم ما لا يخفى والظاهر أن جملة هم خير البرية اسم الإشارة وكذا ما بعد وزعم بعض الأجلة أن الأنسب بالعديل السابق أن تجعل معترضة ويكون الخبر ما بعدها وفيه نظر وقوله تعالى رضي الله عنهم استئناف نحوي وإخبار عما تفضل عز و جل به زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم ويجوز أن يكون بيانيا جوابا لمن يقول ألهم فوق ذلك أمر آخر وجوز أن يكون خبرا بعد خبر أو حالا بتقدير قد أو بدونه وجوز أن يكون دعاء لهم من ربهم وهو مجاز عن الإيجاد مع زيادة التكريم وهو خلاف الظاهر ويبعده عطف قوله تعالى ورضوا عنه عليه وعلل رضاهم بأنهم بلغوا من المطالب قاصيتها ومن المآرب ناصيتها وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذلك أي ما ذكره من الجزاء والرضوان لمن خشي ربه فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية والفوز بالمراتب العلية إذ لو لاها لم تترك المناهي والمعاصي ولا استعد ليوم يؤخذ فيه بالأقدام والنواصي وفيه إشارة إلى أن مجرد الإيمان والعمل الصالح ليس موصلا إلى أقصى المراتب ورضوان من الله أكبر بل الموصل له خشية الله تعالى وإنما يخشى الله من عباده العلماء ولذا قال الجنيد قدس سره الرضا على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة وقال عصام الدين الأظهر أن ذلك إشارة إلى ما يترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح وتعقب بأن فيه غفلة عما ذكر وعن أنه لا يكون حينئذ