كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)

نفس المستعيذ ولايأبى ذلك نزول السورة ليستعيذ بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجوز بعضهم جعل ما مصدرية مع تأويل المصدر باسم المفعول وهو تكلف مستغنى عنه واضافة الشر الى ماخلق قيل لاختصاصه بعلم الخلق المؤسس على امتزاج المواد المتباينة المستتبعة للكون والفساد وأما عالم الأمر الذى أوجد بمجرد أمركن من غير مادة فهو خير محض منزه شوائب الشر بالمرة والظاهر أنه أعنى بعالم الامر عالم المجردات وهم الملائكة عليهم السلام وأورد عليه بعذ غض الطرف عن عدم ورود ذلك فى عالم الشرع أن منهم من يصدر منه شر كخسف البلاد وتعذيب العباد وأجيب بأن ذلك بأمره تعالى فالم يصدر الا لامتثال الامر لا لقصد الشر من حيث هو شر فلا ايراد نعم يرد أن كونهم مجردين خلاف المختار الذى عليه سلف الامة ومن تبعهم بل هم أجسام لطيفة نورية ولو سلم بتجردهم قلنا بعدم حصر المجردات فيهم كيف وقد قال كثير بتجرد الجن فقالوا انها ليست أجساما ولاحالة فيها بل هى جواهر مجردة قائمة بانفسها مختلفة بالماهية بعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها كريمة حرة حبة للخيرات وبعضها دنية خسيسة محبة للشرور والآفات وبالجملة ماخلق أعم من المجرد على القول به وغيره والكل له مخلوق تعالى أى موجد بالاختيار بعد العدم الاأن المراد بالاستعاذة مما فيه شر من ذلك وقرأ عمرو بن فائد على مافى البحر من شر بالتنوين وقال ابن عطية هى قراءة عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة القائلين بان الله تعالى لم يخلق الشر وحملوا على ما فى النفى وجعلوا الجملة فى موضع الصفة أى من شر ما خلقه الله تعالى ولا أوجده وهى قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل انتهى وأنت تعلم أن القراءة بالرواية ولايتعين فى هذه القراءة هذا التوجيه بل يجوز أن تكون ما بدلا من شر على تقدير محذوف قد حذف لدلالة ماقبله عليه أى منشر ماخلق من شر غاسق تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه فيما قبل لزيادة مساس الحاجة الى الاستعاذة منه لكثر وقوعه ولان تعيين المستعاذ منه أدل على الاغتناء بالاستعاذة وادعى الى الاعاذة والغاسق الليل أذا أعتكر ظلامه وأصل الغسق الامتلاء يقال غسقت اذا امتلأت دمعا وقيل هو السيلان وغسق الليل انصباب ظلامه على الاستعارة وغسق العين سيلان دمعها واضافة الشر الى الليل لملابسته له لحدوثه فيه على حد نهاره صائم وتنكيره لعموم شمول الشر لجميع أفراده ولكل أجزائه اذا وقب أى اذا دخل ظلامه فى كل شىء وأصل الوقب النقرة والحفرة ثم استعمل فى الدخول ومنه قوله وقب العذاب عليهم فكانهم
لحقتهم نار السموم فأخمدوا كذا فى المغيب لما أن ذلك كالدخول فى الوقب أى النقرة والحفرة وقد فسر هنا بالمجىء أيضا والتقييد بهذا الوقت لأن حدوث الشر فيه أكثر والتحرز منه أصعب وأعسر ومن أمثالهم الليل اخفى للويل الغاسق بالليل والوقوب بدخول ظلامه أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد وابن أبى حاتم عن الضحاك وروى عن الحسن ايضا واليه ذهب الزجاج الا أنه جعل الغسق بمعنى البارد وقال أطلق على الليل لانه أبرد من النهار وقال محمد ابن كعب هو النهار ووقب بمعنى دخل فى الليل وهو كما ترى وقيل القمر أذا امتلأ نورا على ان الغسق الامتلاء ووقوبه دخوله فى الخسوف واسوداده وقيل التعبير عنه بالغاسق لسرعة سيره وقطعه البروج على أن الغسق مستعار من السيلان وقيل التعبير عنه بذلك لان جرمه مظلم وانما يستنير من ضوءالشمس ووقوبه على القولين المحاق فى آخر الشهر والمنجمون يعدونه نحسا ولذلك لاتشتغل بالسحر المورث للمرض الا فى ذلك الوقت قيل وهو المناسب لسبب نزول واستدل على تفسيره بالقمر على أخرجه

الصفحة 281