كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)
رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة و السلام متشحطا في دمه قال عند الله تعالى أحتسبك وقال لأصحابه لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له وأخبر بذلك قال ما هو لي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا وفي الكشاف أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضا أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الولى في النضر وابنه الحرث المشهورين باللغو في الكفر والطغيان يسئلونك عن الساعة أيان مرساها أي متى إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله تعالى ويكونها ويثبتها فالمرسي مصدر ميمي من سار بمعنى ثبت ومنه الجبال الرواسي وحاصل الجملة الأستفهامية السؤال عن زمان ثبوتها ووجودها وجوز أن يكون المرسى بمعنى المنتهى أي متى منتهاها ومستقرها كما أن مرسى السفينة حيث تنتهي إليه وتستقر فيه كذا قيل وتقدير الأستفهام بمتى يقتضي أن المرسى اسم زمان وقوله كما أن الخ ظاهر في أنه اسم مكان ولذا قيل الكلام على الأستعارة بجعل اليوم المتباعد فيه كشخص سائر لا يدرك ويوصل إليه ما لم يستقر في مكان فجعل الظاهر على ما قيل وقوله تعالى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها إما تقرير وتأكيد لما ينبيء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلا قليلا وأما رد لما أدمجوه في سؤالهم فلإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الأستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الأستهزاء بها ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية الخ وهذا الكلام على ما نقل عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلا ساعة من نهار عشيته أو ضحاه فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في الكشف من حيث أنك إذا قلت لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الأستمرار من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر أما إذا قلت عشيته أو ضحاه لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه وقال الطيبي إنه من المحتمل أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازا فلما أضيف أفاد التأكيد ونفي ذلك الأحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الأضافة حسنا كون الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون الليث في الدنيا وبعضهم كونه في القبور وجوز فيهما واحتار في الإرشاد ما قدمنا وقال إن الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال من الموصول كأنه قيل تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الأعتقاد بمن لم يلبث الإنذار بها إلا تلك المدة اليسيرة وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب هذا ولا يخفى عليك أن الوجه الثاني وإن كان حسنا في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى الفهم وعليه يحسن الوقف على فيم ثم يستأنف أنت من ذكراها لئلا يلبس وقيل أن قوله تعالى فيم الخ متصل بسؤالهم على أنه بدل من جملة يسألونك الخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة أنت من ذكراها أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في أي مرتبة أنت الخ والجواب عليه قوله تعالى إلى ربك منتهاها ولا يخفى ضعف ذلك وأخراج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت ما زال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها فانتهى عليه الصلاة و السلام فلم يسأل بعدها وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت فيهم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها فكف عنها وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها والمعنى أنهم يسألون عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عز و جل يسألونك كأنك وقت إدراكه مستقرا له فتدبر وقوله تعالى فيم أنت من ذكراها إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها وتعلمهم به حتى يسألوك بيانها كقوله تعالى يسألونك كأنك حفي عنها فالأستفهام للإنكار وفيم خبر مقدم وأنت مبتدأ مؤخر ومن ذكراها على تقدير مضاف أي ذكرى وقتها متعلق بما تعلق به الخبر وقيل فيم إنكار لسؤالهم وما بعده استئناف تعليل للإنكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم هذا السؤال ثم ابتديء فقيل أنت من ذكراها أي إرسالك وأنت خاتم الأنبياء المبعوث في نسم الساعة علامة من علامتها ودليل يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم فمعنى قوله تعالى إلى ربك منتهاها على هذا الوجه إليه تعالى يرجع منتهى علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعها لا إلى أحد غيره سبحانه وإنما وظيفتهم أن يعلموا باقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم عنها بعد ذلك وأما على الوجه الأول فمعناه إليه عز و جل انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء كائنا ما كان فلأي شيء يسألونك عنها وقوله تعالى إنما أنت منذر من يخشاها عليه تقرير لما قبل من قوله سبحانه فيم أنت من ذكراها وتحقيق لما هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة و السلام في ذلك الشأن فإن إنكار كونه صلى الله تعالى عليه وسلم في شيء من ذكراها مما يوهم بظاهره أن ليس له عليه الصلاة و السلام أن يذكرها بوجه من الوجوزه فأزيح ذلك ببيان أن المنفي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ذكراها بتعيين وقتها حسبما كانوا يسألونه عنها فالمعنى إنما انت منذر من يخشاها ويخاف أهوالها وظيفتك الأمتثال بما أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال كما تحيط به لا معلم بتعيين وقتها الذي لم يفوض إليك فما لهم يسألونك عما لم تبعث ولم يفوض إليك أمره وعلى الوجه الثاني هو تقرير لقوله تعالى أنت من ذكراها ببيان أن إرساله عليه الصلاة و السلام وهو خاتم الأنبياء عليهم السلام منذر بمجيء الساعة كما ينطق به قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني والظاهر على الأول أن القصر من قصر الموصوف على الصفة والمعنى ما أنت إلا منذر لا معلم بالوقت مبين له وإنما ذكر صلة المنذر إظهارا لكونها ذات مدخل في القصر لكون الكلام في الصر على منذر خاص ونفي إعلام خاص يقابله وكونه من قصر الصفة على الموصوف بناء على ما يتبادر إلى الفهم من كلام السكاكي أن المعنى إنما أنت منذر الخاشي دون من لا يخشى أي ما أنت منذر إلا من يخشى دون غيره مناسب للمقام على أنه