كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)
فإن الإقبال على المدبر مخل بالمروءة ومن هنا قيل لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي
ولا ألين لمن لا يبتغي ليني والله لو كرهت كفى مصاحبتي
يوما لقلت لها عن صحبتي بيني وقرأ الحرميان تصدى بتشديد الصاد على أن الأصل تتصدى فقلبت التاء صادا وأدغمت وقرأ أبو جعفر تصدى بضم التاء وتخفيف الصاد مبنيا للمفعول أي تعرض ومعناه يدعوك إلى التصدي والتعرض له داع من الحرص ومزيد الرغبة في إسلامه وأصل تصدى على ما في البحر تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك يقال داري صدد داره أي قبالتها وقيل من الصدي وهو العطش وقيل من الصدى وهو الصوت المعروف وما عليك ألا يزكى وليس عليك بأس في أن لا يزكى بالأسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم فما نافية والجملة حال من ضمير تصدى والممنوع عنه في الحقيقة الأعراض عمن أسلم لا الأقبال على غيره والأهتمام بأمره حرصا على إسلامه ويجوز أن تكون ما استفهامية للإنكار أي أي شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفي أيضا وأما من جاءك يسعى أي حال كونه مسرعا طالبا لما عندك من أحكام الرشد وخصال الخير وهو يخشى أي يخاف الله تعالى وقيل أذية الكفار في الإتيان وقيل العثار والكبوة إذ لم يكن معه قائد والجملة حال من فاعل يسعى كما أن جملة يسعى حال من فاعل جاءك واستظهر بعض الأفاضل أن النظم الجليل من الأحتباك ذكر الغنى أو لا للدلالة على الفقر ثانيا والمجيء والخشية ثانيا للدلالة على ضدهما أو لا وكأنه حمل استغنى على ما نقل أخيرا واستشعر ما قيل عليه فاحتاج لدفعه إلى هذا التكلف وعدم الأحتياج إليه على ما نقلناه في غاية الظهور فأنت عنه تلهى تتشاغل يقال لهي عنه كرضي ورمى والتهي وتلهى وفي تقديم ضميره عليه الصلاة و السلام على الفعلين تنبيه على أن مناط الإنكار خصوصيته عليه الصلاة و السلام وتقديم له وعنه قيل للتعريض بالأهتمام بمضمونها وقيل للعناية لأنهما منشأ العتاب وقيل للفاصلة وقيل للحصر وذكر التصدي في المستغني دون الأشتغال به وهو المقابل للتلهي عن المسرع الخاشي والتلهي عنه دون عدم التصدي له وهو المقابل للتصدي لذلك قيل للأشعار بأن العتاب للأهتمام بالأول لا للإشتغال به إذ الأشتغال بالكفار غير ممنوع وعلى الأشتغال عن الثاني لا لأنه لا اهتمام له صلى الله تعالى عليه وسلم في أمره إذ الأهتمام غير واجب لأنه عليه الصلاة و السلام ليس إلا منذرا وقرأ البزي عن ابن كثير عنه تلهى بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل وأبو جعفر تلهى بضم التاء مبنيا للمفعول أي يشغلك الحرص على دعاء الكافر للأسلام وطلحة تتلهى بتائين وعنه بتاء واحدة وسكون اللام كلا مبالغة في إرشاده صلى الله تعالى عليه وسلم إلى عدم معاودة ما عوقب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد نزل ذلك كما رواه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس بعد أن قضى عليه الصلاة و السلام نجواه وذهب إلى أهله وجوز كونه إرشادا بليغا إلى ترك المعاتب عليه عليه الصلاة و السلام بناء على أن النزول في أثناء ذلك وقبل انقضائه وفي بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ما عبس في وجه فقير ولا تصدى لغني وتأدب الناس بذلك أدبا حسنا فقد روي عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء والضمير في قوله تعالى إنها للقرآن العظيم والتأنيث لتأنيث الخبر أعني قوله سبحانه تذكرة أي موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها وكذا الضمير في قوله عز و جل فمن شاء ذكره والجملة والمؤكدة تعليل لما أفادته كلا ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاة و السلام له