كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)
ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشقياء الجزئية كما يفهم من ذكر الإخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضا بل يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرؤن على إخسارهم بكليات الأموال فلا بد في الشق الثاني من ذكر الإخسار في الوزن أيضا فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجوازان يقال لم لم يقل إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا وزنوهم يخسرون ليعلم من القرينتين أنهميستوفون الكثير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الأحتباك وقال الزجاج المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده علىما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القريتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى وقيل إن المطففين باعة وهم في الغلالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقا في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزارعين مقدارا كثيرا من الحبوب مثلا في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئا فشيئا في أيام عديدة ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل وذكر الأكتيال فقط في صورة الأستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفا كثرة وقلة وذكر الكيل والوزن في صورة الإعطاء أو اختيار ما به تعيين المقدار مفوضا إلى رأي من يشتري منهم ذكرا معا في تلكالصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلا وإنما عادتهم الوزن والأتزان مطلقا وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطي ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون استئناف وارد لتهويل ماما ارتكبوه من التطفيف والهمزة لإنكار والتعجيب ولا نافية فليست ألا هذه الأستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الأستفهام ولا النافية والظن على معناه المعروف وأولئك إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للأشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليها إشارة حسية وما فيه منمعنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد أي لا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون ليوم عظيم لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظنا ضعيفا لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافا أي لحساب يوم وقيل الظن هنا بمعنى اليقين والأول أولى وأتلغ وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم أسوأ حالا من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظنا حيت حكى سبحانه عنهم إن نظن إلا ظنا ولم يثبته عز و جل لهم والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الإنكار وقوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين أي لحكمه تعالى وقضائه عز و جل منصوب بإضمار أعني وجوز أن يكون معمولا لمبعوثون أو مرفوع خبرا لمبتدأ مضمر أي هو أو ذلك يوم مجرور كما قال الفراء بدلا منيوم عظيم وهو على الوجهين مبني على الفتح لأضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين وقد مر غير مرة ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن علي يوم بالرفع قراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ يوم بالجر وفي هذا الإنكار والتعجب وإيراد الظن والإتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال يوم يقوم الخ منه على القول به ووصفه