كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)

فذوقوا عذابه كلا تكرير للردع السابق في قوله تعالى كلا إن كتاب الفجار الخ ليعقب بوعد الأبرار كما عقب ذاك بوعيد الفجار إشعارا بأن التطفيف والإيقاء بر وقيل ردع عن التكليف فلا تكرار إن كتاب الأبرار لفي عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم الكلام نحو ما مر في نظيره بيد أنهم اختلفوا في عليين على وجه آخر غير اختلافهم في سجين فقال غير واحد هو علم لديوان الخبر الذي دون فيه كل ما علمته الملائكة وصلحاء النقلين منقول من جمع على فعيل من العلو كسجين من السجن سمي بذلك أما لأنه سبب الأرتفاع إلى أعالي درجات الجنان أو لأنهمرفوع في السماء السابعة أو عند قائمة العرش اليمنى مع الملائكة المقربين عليهم السلام تعظيما له وقيل هو المواضع العلية واحده علي وكان سبيله أن يقال علية كما قالوا للغرفة علية فلما حذفوا التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون وحكى ذلك عن أبي الفتح بن جني وقيل هو وصف للملائكة ولذلك جمع بالواو والنون وقال الفراء هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظة كعشرين وثلاثين والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء ولا تثنية أطلقوه في المذكر والمؤنث بالواو والنون يشهده المقربون صفة أخرى لكتاب أي يحضرونه على أن يشهد من الشهود بمعنى الحضور وحضوره كناية عن حفظه في الخارج أو يشهدون بما فيه يوم القيامة على أنه من الشهادة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نظرة التحقيق والخطاب في تعرف لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن مالهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب تعرف مبنيا للمفعول نضرة رفعا على النيابة عن الفاعل وجوز بعضهم أن يكون نائب فاعل تعرف ضمير الأبرار وفي وجوههم نضرة مبتدأ وخبر كأنه قيل الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا تخفى وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه قرأ يعرف بالياء إذ تأنيث نضرة مجازي يسقون من رحيق قال الخليل هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيه قال حسان يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسل وفسر ههنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول مختوم ختامه مسك أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روي عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون والظاهر أن الختام ما يختم به وإن الختم على حقيقته وكذا إسناده وقولنا مختوم أوانيه الخ ليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعني الأستيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به وإظهارا لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لكمال نفاسته وإلا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان على ذلك بالختم وقال ابن عباس وابن جبير والحسن المعنى خاتمته ونهايته رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال الذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلا فالرائحة لا تختص بالأنتهاء وقيل المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك كشراب الدنيا نهايته وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى وقيل إن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعول عليه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن عبلة والكسائي خاتمه بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد يختم به أيضا فإن فاعلا بالفتح يكون أيضا اسم آلة كالقلب والطابع لكنه سماعي وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك والجمل السابقة أعني على الأرائك ينظرون وتعرف في وجوههم الخ ويسقون الخ قيل أحوالمترادفة وقيل مستأنفات كجملة الأبرار الخ وقعت أجوبة للسؤال عن حالهم والفصل للتنبيه على استقلال كل في بيان كرامتهم وفي ذلك إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه منمعنى البعد للأشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى فليتنافس وقدم للأهتمام أو للحصر أي فليتنافس على الوجهين المراد بالمقربين جمع من الملائكة عليهم السلام كذا قالوا وأخرج عبد بن حميد من طريق خالد بن عرعرة وأبي عجيل أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية فقال إن المؤمن يحضره الموت ويحضره رسل ربه عز و جل فلا هم يستطيعون أن يؤخروه ساعة ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة الرحمة فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الخير ثم عرجوا بروحه إلى السماء فيشيعه منكل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة فيضعونه بين أيديهم ولا ينتظرون به صلاتكم عليه فيقولون اللهم هذا عبدك فلان قبضنا نفسه ويدعون له بما شاء الله تعالى أن يدعوا له فنحن نحب أن تشهدنا اليوم كتابه فينشر كتابه من تحت العرش فيثبتون اسمه فيه وهم شهود فذلك قوله تعالى كتاب مرقوم يشهده المقربون وسأله عن قوله تعالى إن كتاب الفجار الآية فقال إن العبد الكافر يحضره الموت ويحضره رسل ربه سبحانه فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الشر ثم هبطوا به إلى الأرض السفلى وهو سجين وهي آخر سلطان إبليس فأثبتوا كتابه فيها الحديث وفي بعض الأخبار ما ظاهره أن نفس العمل يكون في سجين ويكون في عليين فقد أخرج ابن المبارك عن صخرت بن حبيب قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم انكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين وبأدنى تأويل يرجع إلى ما تضمنته الآية فلا تغفل وقوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم شروع في بيان محاسن أحوالهم أثر بيان حال كتابهم والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل هذا حال كتابهم فأجيب بما ذكر أي أنهم لفي نعيم عظيم على الأرائك أي على الأسرة في الحجال وقد تقدم تمام الكلام فيها ينظرون أي إلى ما شاؤا من رغائب مناظر الجنة وما تحجب الحجال أبصارهم وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد إلى

الصفحة 74