كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 30)

في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من تاب وآمن وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم فلهم عذاب جهنم أي بسبب فتنهم ذلك ولهم عذاب الحريق وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبيء عنه صيغة لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم وقال بعض الأجلة أي فلهم عذاب جهنم بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر ولهم عذاب الحريق بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصرح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما سببين في جانب الخبر على الترتيب وقيل أي فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما روي عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد علمت حاله وتعقبه أبو حيان بأن ثم لم يتوبوا يأبى عنه لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب بل الظاهر أنهم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر وعليه إنما أخر ولهم عذاب الحريق ورعاية للفواصل أو للتتميم والترديف كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا محالة وهذا أيضا لا يتجاوز وفي الكشف الوجه أن عذاب جهنم وعذاب الحريق واحد وصف بما يدل على أنه للمبعودين جدا عن رحمته عز و جل أنه عذاب هو محض الحريق وهو الحرق البالغ وكفى به عذابا والظاهرأنه اعتبر الحريق مصدرا والإضافة بيانية ولا بأس إلا أن الوحدة التي ادعاها خلاف ظاهر العطف وقال بعضهم لو جعل من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما كان أقرب ولعل ما ذكرناه أبعد عن القال والقيل وجملة فلهم عذاب الخ وقعت خبرا لأن الجار والمجرور وعذاب مرتفع على الفاعلية وهو الأحسن والفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن وإن زعمه الأخفش واستدل بالآية على بعض أوجهها على أن عذاب الكفار يضاعف بما قارنه من المعاصي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات على الإطلاق من المفتونين وغيرهم لهم بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح جنات تجري من تحتها الأنهار إن أريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر فإن أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة الجملة قيل لأنها كالتأكيد لما أشعرت به الآية قبل من اختصاص العذاب بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ذلك إشارة إلى كون ما ذكر لهم وحيازتهم إياه وقيل للجنات الموصوفة والتذكير لتأويلها بما ذكر وما فيه من معنى للإيذان بعلو الدرجة وبعد المنزلة في الفضل والشرف ومحله الرفع على الأبتداء خبره الفوز الكبير الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الرغائب والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الوجه الثاني في الإشارة هو مصدر أطلق على المفعول المفعول مبالغة وعلى الأول مصدر على حاله إن بطش ربك لشديد استئناف خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إيذانا بأن الكفار قومه نصيبا موفورا منمضمونه كما ينبيء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام والبطش الأخذ بصولة وعنف وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه عز و جل بالجبابرة والظلمة وأخذه سبحانه إياهم بالعذاب والأنتقام إنه هو يبديء ويعيد أي إنه عز و جل هو يبديء الخلق بالإنشاء وهو سبحانه يعيده بالحشر يوم القيامة كما قال ابن زيد والضحاك أو يبديء كل ما يبدا ويعيد كل ما يعاد كما قال ابن عباس من غير دخل لأحد في شيء منهما ومن كان كذلك كان بطشه في غاية الشدة

الصفحة 91