كتاب الحواشي السابغات على أخصر المختصرات

وَشُرِطَ كَونُ قَاضٍ بَالغاً عَاقِلاً ذكراً حراً مُسلماً عدلاً سميعاً بَصيراً متكلِّماً مُجْتَهداً وَلَو فِي مَذهَبِ إمامِهِ (¬١).
---------------
(¬١) يشترط في القاضي عشر صفات: ١ - كونه بالغاً، ٢ - عاقلاً، ٣ - ذكراً، وفي الحديث: «لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة»، رواه مسلم، ٤ - حراً، ٥ - مسلماً، ٦ - عدلاً، فلا يجوز تولية الفاسق، ٧ - سميعاً، وإلا لم يمكنه سماع دعوى الخصمين، ٨ - بصيراً، فلا تصح تولية الأعمى على المذهب، خلافاً للمعمول به الآن، ٩ - متكلماً؛ لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ١٠ - مجتهداً، والمجتهد مأخوذ من الاجتهاد وهو: استفراغ الفقيه وسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي، والمراد: المجتهد اجتهاداً مطلقاً: وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد المذكورة في كتاب القضاء، فإن لم يوجد اكتُفي بمجتهدٍ في مذهب إمامه فقط للضرورة.

(تتمة) المراد بالمجتهد في مذهب إمامه: ذكر المرداوي - وتبعه ابن النجار في آخر شرحه للمنتهى - للمجتهد في مذهب إمامه أربعة أحوال - أخذاً من آداب المفتي والمستفتي لابن حمدان -، وهذا ملخصها: الحالة الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد ودعا إلى مذهبه، وجعل المرداوي ممن يدخل في هذا القسم: (الموفق، والمجد)، قلت: هذا القسم يأتي بعد المجتهد المطلق - إذا عُدم - بلا شك.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهداً في مذهب إمامه مستقلاً بتقريره بالدليل، لكن لا يتعدى أصوله وقواعده، مع إتقانه للفقه والقواعد وأدلة مسائل الفقه، وهو من أصحاب الأوجه والطرق في المذهب. قال المرداوي: (والحاصل: أن المجتهد في مذهب إمامه: هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع، ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط)، وهو الذي يعنونه بقولهم: (مجتهداً ولو في مذهب إمامه).
فضابط هذه الحالة: الحافظ والعالم بمذهب إمامه بأدلته مع علمه بالفقه وأصوله، والقدرة على التفريع على أقوال وقواعد وأصول إمامه، مع معرفته بالحديث واللغة والنحو.
وعرَّف ابن عوض - في حاشيته على دليل الطالب - هذا المجتهد بقوله: (هو العارف بمدارك المذهب القادر على تقرير قواعده، والجمع والفرق)، وأصل هذا التعريف بنصه لابن النجار في مختصر التحرير.
الحالة الثالثة: الحافظ لمذهب إمامه العارف بأدلته لكنه لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه والطرق؛ لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، أو لكونه غير متبحر في أصول الفقه أو غير ذلك، ولهم تخريجات لكنها دون من هم في الحالة الثانية، قال المرداوي: (وفتاويهم مقبولة).
الحالة الرابعة: الذي يحفظ المذهب أو يستحضر أكثره، ويفهمه متصورا لمسائله على وجهها وينقله، فهو يفتي بمنصوص الإمام أو تفريعات أصحابه، فلا يفتي إلا بمنقول عنهم، ويُدخل بعض الفروع تحت ضابط صالحٍ له في المذهب، وهذا هو المقلد الذي يعنونه بقولهم: (مجتهداً ولو في مذهب إمامه، أو مقلداً)، كما سيأتي في التتمة الآتية.
(تتمة) فإن لم يكن ثم مجتهد مطلق، ولا مجتهد في مذهب إمامه، جاز تولية القضاء لمقلد: قال في الإقناع - ونحوه الغاية - بعد تقديم تولية المجتهد في المذهب: (واختار في الإفصاح والرعاية: أو مقلداً، قال في الإنصاف - عن تولية القاضي المقلد -: قلت: وعليه العمل من مدة طويلة وإلا لتعطلت أحكام الناس، انتهى)، وزاد في الإقناع: (وكذا المفتي، فيشترط أن يكون مجتهداً، أو مجتهداً في مذهبه، أو مقلداً)، ثم قال: (فيراعي كلٌ منهما ألفاظَ إمامه، ومتأخِّرَها، ويقلد كبار مذهبه في ذلك، ويحكم به). والواقع الآن - فيما أعلم - أنه لا يوجد عندنا مجتهد مطلق ولا مجتهد في المذهب ولا مقلد عارف لمذهب معين، والمعمول به الآن: هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام، وهو كون شروط القضاء تعتبر حسب الإمكان، وأنه يجب تولية الأمثل فالأمثل، قال: (وعلى هذا يدل كلام الإمام - أي: أحمد - وغيرِه. وقال: فيولى للعدم أنفع الفاسقين وأقلهما شراً، وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد). قال الحجاوي نقلاً عن ابن مفلح في الفروع: (وهو كما قال)، قال الشيخ منصور في الكشاف: (وإلا - أي: إن لم يُعمل بقول شيخ الإسلام - لتعطلت الأحكام واختل النظام).

الصفحة 757