كتاب الصوت اللغوي في القرآن

وتجاوزها، في حياة قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو اطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة) (1).
ما هذا الإيقاع المجلجل؟ وما هذه النبرات الصوتية الرتيبة؟ وما هذا النسق المتوازن؟ العقبة، رقبة، مسغبة، مقربة، متربة، أصداء صوتية متلاحقة، في زنة متقاربة، زادها السكت رنة وتأثيراً ولطف تناغم، وسط شدة هائلة مرعبة، وخيفة من حدث نازل متوقع، فالاقتحام في مصاعبه ومكابدته، والعقبة في حراجتها والتوائها ومخاطرها، يتعانقان في موضع واحد، يوحي بالرهبة والفزع.
«والاقتحام هو أنسب الألفاظ للعقبة لما بينهما من تلاؤم في الشدة والمجاهدة واحتمال الصعب، والمناسبة بين اقتحام العقبة وبين خلق الإنسان في كبد، أوضح من أن يحتاج إلى بيان، والجمع بينهما في هذا السياق، يقدم لنا مثلاً رائعاً من النظم القرآني المعجز: فالإنسان المخلوق في كبد، أهل لأن يقتحم أشد المصاعب، ويجتاز أقسى المفاوز، على هدى ما تهيأ له من وسائل الإدراك والتمييز، وما فطر عليه من قدرة على الاحتمال والمكابدة» (2).
قال الطبرسي (ت: 548 هـ) وهو يتحدث عن هذا السياق: «أنه مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال الخير والبر، فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقة الكؤود، فكأنه قال: لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام» (3).
وإرادة التأنيب والتعنيف مع الحض والترجيح والتحبيب، في صيغة النفي وتقريره، والاستفهام وتهويله، حافز وأي حافز على معالجة هذه المخاوف الاجتماعية السائدة، ودرء هذه المشاكل العالقة في المجتمعات المتخلفة: السغب، اليتم، المسكنة، إنها آفات متطاولة تنخر في بنية
__________
(1) البلد: 11 ـ 16.
(2) بنت الشاطي، التفسير البياني: 1|190.
(3) الطبرسي، مجمع البيان: 5|495.

الصفحة 151