4 ـ محاكاة الأصوات:
وقد ذهب ابن جني مذهباً صوتياً فريداً يربط بين الصوت والفعل تارة، وبين الصوت والاسم تارة أخرى، ويبحث علاقة كل منهما بالأخر علاقة حسية ومادية متجسدة، فجرس الألفاظ ووقعها فيما يحدثه من أصوات وأصداء سمعية قد يكون متجانساً ومقارباً لنوعية عنده فيقول:
«فإن كثيرا من هذه اللغة وجدته مضاهياً بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها عنها، ألا تراهم قالوا: قضم في اليابس، وخضم في الرطب. وذلك لقوة القاف وضعف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى، والصوت الأضعف للفعل الأضعف» (1).
وتجده يلائم بين الصوت اللغوي وعلاقته بصوت الطائر في الاستطالة والقطع، فالراء مرددة مكررة مستطيلة، وصوت الجندب مثلاً مستطيل، فجعلت له «صرّ» مشددة، وصوت البازي مثلاً متقطع، فقطعت الراء فكانت «صرصر» وذلك ما رآه:
«وكذلك قالوا «صر الجندب» فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته، وقالوا «صرصر البازي» لما هناك من تقطيع صوته» (2).
وفي هذا المجال فإن ابن جني لا يقف عند هذا الحد من النظرية والتطبيق، بل يربط أحياناً بين الأصوات وبين ما سمي به الشيء، نظراً لمشابهته لذلك الصوت المنطلق من التسمية، كالبط لصوته، والواق للصرد لصوته، وغاق للغراب لصوته (3).
وهو بهذا يذهب مذهب من يجد مناسبة ما بين الصوت والمعنى، لا سيما عند البلاغيين في التماس علاقة اللفظ بالمعنى، أو في الدلالة الحسية للفظ بالمعنى، وهو من باب تسمية الشيء باسم صوته، وتلك مقولة صحيحة في جملة من الأبعاد، وحقيقة في كثير من المسميات والتسميات.
__________
(1) ابن جني، الخصائص: 1|65.
(2) المصدر نفسه: 1|165.
(3) المصدر نفسه 2|165.