كتاب سير أعلام النبلاء ط الرسالة (اسم الجزء: 1)

قَالَ: مَنْ سَلَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ - رَآهُ أَوْ لَمْ يَرَهُ - كَانَ لَهُ مُحَمَّدٌ شَافِعاً، وَمُصَافِحاً.
فَدَخَلَ حَلاَوَةُ الإِنْجِيْلِ فِي صَدْرِي.
قَالَ: فَأَقَامَ فِي مُقَامِهِ حَوْلاً.
ثُمَّ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! إِنَّكَ قَدْ أَحْبَبْتَنِي وَأَحْبَبْتُكَ، وَإِنَّمَا قَدِمْتُ بِلاَدَكُم هَذِهِ، إِنَّهُ كَانَ لِي قَرِيْبٌ، فَمَاتَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُوْنَ قَرِيْباً مِنْ قَبْرِهِ، أُصَلِّي عَلَيْهِ، وَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، لِمَا عَظَّمَ اللهُ عَلَيْنَا فِي الإِنْجِيْلِ مِنْ حَقِّ القَرَابَةِ، يَقُوْلُ اللهُ:
مَنْ وَصَلَ قَرَابَتَهُ وَصَلَنِي، وَمَنْ قَطَعَ قَرَابَتَهُ فَقَدْ قَطَعَنِي.
وَإِنَّهُ قَدْ بِدَا لِي الشُّخُوْصُ مِنْ هَذَا المَكَانِ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيْدُ صُحْبَتِي، فَأَنَا طَوْعُ يَدَيْكَ.
قُلْتُ: عَظَّمْتَ حَقَّ القَرَابَةِ، وَهُنَا أُمِّي وَقَرَابَتِي.
قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيْدُ أَنْ تُهَاجِرَ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيْمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَدَعِ الوَالِدَةَ وَالقَرَابَةَ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ يُصْلِحُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُم، حَتَّى لاَ تَدْعُو عَلَيْكَ الوَالِدَةُ.
فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا نَصِيْبِيْنَ، فَاسْتَقْبَلَهُ اثْنَا عَشَرَ مِنَ الرُّهْبَانِ، يَبْتَدِرُوْنَهُ، وَيَبْسُطُوْنَ لَهُ أَرْدِيَتَهُم، وَقَالُوا:
مَرْحَباً بِسَيِّدِنَا، وَوَاعِي كِتَابِ رَبِّنَا.
فَحَمِدَ اللهَ، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، وَقَالَ:
إِنْ كُنْتُمْ تُعَظِّمُوْنِي لِتَعْظِيْمِ جَلاَلِ اللهِ، فَأَبْشِرُوا بِالنَّظَرِ إِلَى اللهِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أَتَعَبَّدَ فِي مِحْرَابِكُمْ هَذَا شَهْراً، فَاسْتَوْصُوا بِهَذَا الغُلاَمِ، فَإِنِّي رَأَيْتُهُ رَقِيْقاً، سَرِيْعَ الإِجَابَةِ.
فَمَكَثَ شَهْراً لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيَّ، وَيَجْتَمِعُ الرُّهْبَانُ خَلْفَهُ، يَرْجُوْنَ أَنْ يَنْصَرِفَ، وَلاَ يَنْصَرِفُ.
فَقَالُوا: لَوْ تَعَرَضَّتَ لَهُ؟
فَقُلْتُ: أَنْتُم أَعْظَمُ عَلَيْهِ حَقّاً مِنِّي.
قَالُوا: أَنْتَ ضَعِيْفٌ، غَرِيْبٌ، ابْنُ سَبِيْلٍ، وَهُوَ نَازِلٌ عَلَيْنَا، فَلاَ نَقْطَعُ عَلَيْهِ صَلاَتَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى أَنَّا نَسْتَثْقِلُهُ.
فَعَرَضْتُ لَهُ، فَارْتَعَدَ، ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
مَا لَكَ يَا بُنَيَّ! جَائِعٌ أَنْتَ؟ عَطْشَانُ أَنْتَ؟ مَقْرُوْرٌ أَنْتَ؟ اشْتَقْتَ إِلَى أَهْلِكَ؟
قُلْتُ: بَلْ أَطَعْتُ هَؤُلاَءِ العُلَمَاءَ.
قَالَ: أَتَدْرِي مَا يَقُوْلُ الإِنْجِيْلُ؟
قُلْتُ: لاَ.
قَالَ: يَقُوْلُ: مَنْ أَطَاعَ العُلَمَاءَ فَاسِداً كَانَ أَوْ مُصْلِحاً، فَمَاتَ، فَهُوَ صِدِّيْقٌ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَتَوَجَّهَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ.
فَجَاءَ العُلَمَاءُ،

الصفحة 517