كتاب سير أعلام النبلاء ط الرسالة (اسم الجزء: 1)

فَقَالُوا: يَا سَيِّدنَا! امْكُثْ يَوْمَكَ تُحِدِّثْنَا وَتُكَلِّمْنَا.
قَالَ: إِنَّ الإِنْجِيْلَ حَدَّثَنِي أَنَّهُ مَنْ هَمَّ بِخَيْرٍ فَلاَ يُؤَخِّرْهُ.
فَقَامَ، فَجَعَلَ العُلَمَاءُ يُقَبِّلُوْنَ كَفَّيْهِ وَثِيَابَهُ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُوْلُ:
أُوْصِيْكُمْ أَلاَ تَحْتَقِرُوا مَعْصِيَةَ اللهِ، وَلاَ تَعْجَبُوا بِحَسَنَةٍ تَعْمَلُوْنَهَا.
فَمَشَى مَا بَيْنَ نَصِيْبِيْنَ وَالأَرْضِ المُقَدَّسَةِ شَهْراً، يَمْشِي نَهَارَهُ، وَيَقُوْم لَيْلَهُ، حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَقَامَ شَهْراً يُصَلِّي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عُلَمَاءُ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَطَلَبُوا إِلَيَّ أَنْ أَتَعَرَّضَ لَهُ، فَفَعَلْتُ، فَانْصَرَفَ إِلَيَّ، فَقَالَ لِي كَمَا قَالَ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى.
فَلَمَّا تَكَلَّمَ، اجْتَمَعَ حَوْلَهُ عُلَمَاءُ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَحَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَوْمَهُم وَلَيْلَتَهُم حَتَّى أَصْبَحُوا، فَمَلُّوا، وَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ لِي:
أَيْ بُنَيَّ! إِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أَضَعَ رَأْسِي قَلِيْلاً، فَإِذَا بَلَغَتِ الشَّمْسُ قَدَمَيَّ فَأَيْقِظْنِي.
قَالَ: وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ ذِرَاعَانِ، فَبَلَغَتْهُ الشَّمْسُ، فَرَحِمْتُهُ لِطُوْلِ عَنَائِهِ وَتَعَبِهِ فِي العِبَادَةِ، فَلَمَّا بَلَغَتِ الشَّمْسُ سُرَّتَهُ اسْتَيْقَظَ بِحَرِّهَا.
فَقَالَ: مَا لَكَ لَمْ تُوْقِظْنِي؟
قُلْتُ: رَحِمْتُكَ لِطُوْلِ عَنَائِكَ.
قَالَ: إِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَ عَلَيَّ سَاعَةٌ لاَ أَذْكُرُ اللهَ فِيْهَا، وَلاَ أَعْبُدُهُ، أَفَلاَ رَحِمْتَنِي مِنْ طُوْلِ المَوْقِفِ، أَيْ بُنَيَّ! إِنِّي أُرِيْدُ الشُّخُوْصَ إِلَى جَبَلٍ فِيْهِ خَمْسُوْنَ وَمَائَةُ رَجُلٍ، أَشَرُّهُمْ خَيْرٌ مِنِّي، أَتَصْحَبُنِي؟
قُلْتُ: نَعَمْ.
فَقَامَ، فَتَعَلَّقَ بِهِ أَعْمَى عَلَى البَابِ، فَقَالَ:
يَا أَبَا الفَضْلِ! تَخْرُجُ وَلَمْ أُصِبْ مِنْكَ خَيْراً؟
فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَصَارَ بَصِيْراً.
فَوَثَبَ مُقْعَدٌ إِلَى جَنْبِ الأَعْمَى، فَتَعَلَّقَ بِهِ، فَقَالَ:
مُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ بِالجَنَّةِ.
فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَامَ، فَمَضَى - يَعْنِي الرَّاهِبَ -.
فَقُمْتُ أَنْظُرُ يَمِيْناً وَشِمَالاً لاَ أَرَى أَحَداً، فَدَخَلْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ فِي زَاوِيَةٍ، عَلَيْهِ المُسُوْحُ، فَجَلَسْتُ حَتَّى انْصَرَفَ.
فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ! مَا

الصفحة 518