كتاب سير أعلام النبلاء ط الرسالة (اسم الجزء: 17)

العَامَّةُ، ثُمَّ بعثَ عَسْكَراً، فَهَزمهُم سُلَيْمَانُ المُسْتَعِيْن.
ثُمَّ سَارَ حَتَّى شَارف قُرْطُبَة، فَبرز لِحَرْبِهِ عَسْكَرُ المَهْدِيِّ، فَنَاجَزَهُم سُلَيْمَانُ، فَكَانَ مَنْ غَرِقَ مِنْهُم فِي الوَادِي أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ، وَكَانَتْ وَقعَة هَائِلَة هَلَكَ فِيْهَا خَلْقٌ مِنَ الأَخْيَار وَالأَئِمَّةِ المُؤَذِّنِيْن، فَلَمَّا أَصْبَحَ المَهْدِيُّ بِاللهِ، أَخرج لِلنَّاسِ الخَلِيْفَةَ المُؤَيَّد بِاللهِ هِشَامَ بنَ الحَكَمِ، الَّذِي كَانَ أَظْهَرَ لَهُم مَوْتَهُ، فَأَجْلَسَهُ لِلنَّاسِ، وَأَقبلَ قَاضِي الجَمَاعَةِ يَقُوْلُ:
هَذَا أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ، وَإِنَّمَا مُحَمَّدُ بنُ هِشَام بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ نَائِبُه.
فَقَالَ لَهُ البَرْبَرُ: يَا ابْنَ ذَكْوَانِ، بِالأَمْسِ تُصَلِّي عَلَيْهِ، وَاليَوْمَ تُحييه؟!
ثُمَّ خَرَجَ أَهْلُ قُرْطُبَة إِلَى المُسْتَعِيْن سُلَيْمَانَ، فَأحسنَ مَلقَاهُم وَاختفى مُحَمَّد المَهْدِيّ، وَاسْتوثق أَمرُ المُسْتَعِيْن، وَدَخَلَ قصرَ الإِمَارَةِ، وَوَارَى النَّاسُ قَتْلاَهُم، فَكَانُوا نَحْواً مِنِ اثنَيْ عشرَ أَلْفاً، ثُمَّ تسحّب المَهْدِيُّ إِلَى طُلَيْطُلة، فَقَامُوا مَعَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الفِرنجِ، وَوعدَهُم بِالأَمْوَال، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ عَظِيْم، وَهُوَ أَوّلُ مَالٍ انْتَقَلَ مِنْ بَيْتِ المَالِ بِالأَنْدَلُسِ إِلَى الفِرنج، وَكَانَتِ الثُّغُوْرُ كُلُّهَا بَاقِيَةً عَلَى طَاعَة المَهْدِيِّ، فَقَصَدَ قُرْطُبَة فِي جحفلِ عَظِيْمٍ، فَالتَقَى الجَمْعَان عَلَى عقبَة الْبَقر عَلَى بَرِيْدٍ مِنْ قُرْطُبَةَ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَال، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ المُسْتَعِيْنُ، وَاسْتَوْلَى المَهْدِيُّ عَلَى قُرْطُبَة ثَانياً، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ أَيَّامٍ إِلَى قِتَالِ جَمَاهِيْرِ البَرْبَر، فَالتقَاهُم بوَادِي آرُهْ، فَهَزمُوهُ أَقْبَحَ هَزِيْمَةٍ، وَقُتِلَ مِنْ جُنْدِهِ الفِرَنجِ ثَلاَثَةُ آلاَف، وَغَرِقَ خَلْقٌ فَجَاءَ إِلَى قُرْطُبَة، ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهِ العَبِيْدُ، فَضُرِبَتْ عُنُقُه، وَقُطِعَتْ أَرْبَعَتُهُ وَكَفَى الله شَرَّهُ فِي ثَامنِ ذِي الحِجَّةِ، عَامَ أَرْبَعِ مائَةٍ، وَعَاشَ أَرْبَعاً وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً (1) .
قَالَ الحُمَيْدِيُّ (2) :أُعِيْدَ المُؤَيَّد بِاللهِ إِلَى الخِلاَفَةِ فِي آخر سَنَةِ أَرْبَع
__________
(1) " جذوة المقتبس " 18، 19.
(2) " جذوة المقتبس " 17.

الصفحة 130