كتاب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة

فإذا تجاوزنا الخلاف حول حجية النص واجهنا في المسألة الثانية المتعلقة بدلالة النص خلافا أبين وأوسع، وقليل من النصوص تلك التي انعقد الإجماع بين الوصفين بأن كان قطعي الورود قطعي الدلالة، وواجه الفقهاء في الكم الأعظم من النصوص ما عرفوه بأنه ظني الدلالة، وحيال هذه الدلالة الظنية اختلفت الأفهام في تحصيل المدلول، أما ما كان قطعي الورود قطعي الدلالة فقد انعقد الإجماع على امتناع الاجتهاد حياله بما عرف بقاعدة: لا اجتهاد مع النص. وأما ما كان قطعي الورود ظني الدلالة أو ظني الورود ظني الدلالة أو ظني الورود قطعي الدلالة فقد ظل ميدانا لاجتهاد الفقهاء منذ الرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم الفطر للمسافر في رمضان يستند إلى نص قطعي الورود عن الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} (1) ولكن دلالة النص على كون هذا الحكم رخصة أم عزيمة دلالة غير قطعية بما روي من أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إلى سفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنهم من صام ومنهم من أفطر فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صائم ومفطر. ومن أمثلة اجتهاد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بنو قريظة فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق وقال: لم يرد بنا التأخير وإنما أراد سرعة النهوض فنظروا إلى المعنى. واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس." (2) إذن فالاجتهاد حتمي لتحصيل المعنى من نص ظني الدلالة وهو أكثر حتما حال غياب النص. وفي ظل التسليم بحتمية الاجتهاد وضرورته نشأت المذاهب على اختلافها وأثرى الفكر الإسلامي في شتى مجالاته، وبدا للمسلمين خاصتهم وعامتهم أي حرج من هذا الاجتهاد والاختلاف حتى تواتر بينهم القول بأن: اختلافهم رحمة.
__________
(1) سورة البقرة. آية 184
(2) ابن القيم. أعلام الموقعين 1/244-245.

الصفحة 68