كتاب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة

لم يضيق الفكر الإسلامي باختلاف الفقهاء وتفريعاتهم، ولكن الضيق بدأ يناوش صدور الحكام من هذا الاختلاف. فما روي أن ابن المقفع وزير أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس أشار عليه بأن يأمر بجمع الناس على مصدر واحد للأحكام حتى لا يختلف الفقهاء في شأن الأقضية التي تعرض عليهم. وعملا بمشورته أمر الخليفة أمام دار الهجرة مالك بن أنس بجمع ما صح لديه من أحاديث (1) الرسول صلى الله عليه وسلم فكان له الموطأ. وقد اراد أبو جعفر ان يرسل في الأمصار نسخا منه لتكون مرجع الناس في أقضيتهم فابى مالك عليه ذلك معتذرا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار ولدى كل جماعة منهم من العلم ما تطمئن قلوبهم عليه وأن أخذ الناس بمرجع واحد فيه حرج ومشقة فانتصح بذلك المنصور، ودام ازدهار حركة الاجتهاد إلى القرن الرابع الهجري وإن كان القرن الثالث شهد ختام مولد المذاهب الكبرى حتى ليقال ان الإمام محمد بن جرير الطبري المتوفي عام 310هـ كان خاتمة المطاف بين المجتهدين ذوي الاستقلال في البحث والنظر وأنه منذ وفاته بدا زحف غاشية الجهل على العقول (2) . إلى أن وصل الأمر إلى موات ملكة الإجتهاد حتى أن المستعصم أمر أساتذة المدرسة المستنصرية:" ألا يتعدوا حدود كلام المشايخ السابقين ويمتنعوا عن ذكر شيء من مصنفاتهم (3) " وأدلهم ليل الجهالة بسقوط بغداد في يد التتار عام 656هـ وإحراقهم لمكتباتهم وتخريبهم دور العلم فيها. فلم يعد من سبيل إلى التماس العلم الصحيح فقنع الناس بالتقليد الذي أصبح طابع العصور التالية لذلك.
ومع أن القرن العاشر قد ظهر فيه نوابغ من العلماء كالشيخ خليل المالكي والسبكي والرمادي والسيوطي وغيرهم ممن كانت لهم القوة الفقهية وملكات الاستنباط غير أنهم لم يصرفوا هذه القوى كما فعل الأسلاف في الاجتهاد، والتخريج بل وجهوها إلى وضع الشروح والمختصرات وجمع الفروع الكثيرة في عبارات ضيقة تشبه الألغاز حتى احتاجت إلى وضع كتب أخرى تشرح مبهمها
__________
(1) ابن خلدون.. المقدمة ص 18،17.
(2)
(3) عبد المتعال الصعيدي. في ميدان الاجتهاد ص 1029

الصفحة 69