فإذا ملأ بطنَه تشوَّشتْ فكرته لما يستوليْ على معادن إدراكه من الأبِخرة الكثيرة المتصاعدة من مَعِدَتِه إلى دماغِه، فلا يمكنه نظرٌ صحيحٌ، ولا يتَّفق له رأيٌ صالحٌ، وقد يقع في مداحضَ فيزوغُ عن الحقِّ، ويغلب عليه الكسَل فيمنعه مِن وظائف العبادات، وتكثر موادُّ الفضول فيه فيكثُر غضبه وشهوته، ويزيد حرُصه فيوقعه في طلب ما زاد على كفايته فيقع في المحارم، فالصَّوم يدفع ذلك كلَّه، فلهذا كان جُنّةً / [118/ب] يسْتجنُّ بها العبدُ من النار). ذكره البيضاويُّ (¬1).
وقال الطيبيُّ: إنما جَعَل الصومَ جُنّةً عن النّار؛ لأنّ في الجوع سَدُّ مجاري الشيطان،
¬_________
= الوجهين في التحفة (8/ 512) , وقد سكت عنه الحاكم على خلاف عادته فتعقَّبه الذّهبيُّ بقوله: (صحيح).
وللحديث طريقٌ آخر عند ابن حبَّان (12/ 41) عن سليمان بن سليم الكناني، عن صالح بن يحيى ابن المقدام بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده المقدام مرفوعًا, ولكنَّ صالحًا قال فيه الحافظ في التقريب (رقم 2894): (ليِّنٌ) , وأبوه يحيى قال فيه في التقريب (رقم 2673): (مستورٌ) ولذا
وقد أعلَّ الحديث أبو حاتمٍ في المراسيل (244) فقال: (يحيى عن المقدام مرسلٌ) وتبعه المزيُّ في التهذيب (31/ 249) والعلائيُّ في جامع التحصيل (300) وابن حجرٍ في التهذيب (11/ 191) مع تحسين ابن حجرٍ في الفتح (9/ 528) , ومع هذا فقد وقع الحديث في مسند أحمدَ ومستدرك الحاكم مصرِّحًا يحيى بالسّماعِ من المقدام، وهذا ما حمَلَ الشيخ الألبانيّ رحمه الله أن يصحّح الحديث ويقول: (قول ابن أبي حاتمٍ ومن تبعه غير مسلّم، وكأنّه قائمٌ على عدم الاِطلاع على هذا الإسناد الصحيح المصرّح بسماعه منه، والله أعلم) إرواء الغليل (7/ 42) , ولكن يبقى أن بين يدينا تصريحًا بالسماع في نسخةٍ -الله أعلم- من ناسخُها؟ ، بمقابل كلام أئمةٍ جهابذةٍ تتابعوا على نفي السماع ولا معارضَ لهم، وهذا ما أشار إليه الشيخ مقبلٌ الوادعيُّ رحمه الله في كتابه (أحاديث معلَّة ظاهرها الصحة ص 369) حيث قال: (والتصريح ههنا بالسّماع لا يعتمد عليه؛ إذ يحتمل أنّه وقع في الكتاب تصحيفٌ أو وَهَمٌ من بعض الرواة، وجزمُ الحفاظ بأنّ فلانًا لم يسمع من فلان ولم يعارضهم من يُثبِت سماعَه مقدّم على التصريح بالسماع في نسخةٍ غير مسموعةٍ لنا، والله أعلم) ولكن التصريح وقع في كتابين, والذي يظهر أنَّ الحديث حسنٌ؛ لمكان الطريق المتقدم -وهو صالحٌ للمتابعات- والله أعلم.
(¬1) تحفة الأبرار (1/ 68).