كتاب شروح حماسة أبي تمام دراسة موازنة في مناهجها وتطبيقها

على أنه إن كان ثمة تعليل يمكن أن نعلل به وجود قطع في غير موضعها فهو ما وجدناه في الشرح المرجح نسبته لزيد بن علي، وذلك حين علق على بيتي بكير بن الأخنس اللذين وردا في باب الحماسة وهما:
نزلت على آل المُهلب شاتيًا غريبًا عن الأوطان في زمن محل
فما زال بي إكرامهم واقتفاؤهم وألطافهم حتى حسبتهم أهلي
قال: "ليس في هذين البيتين ذكر الحماسة إلا أن الأبيات قبلهما اشتملت على الحماسة وإكرام الجار، فأورد أبو تمام هذين البيتين لأنهما في مبالغة إكرام الجار".
فكأنه بهذا القول يقرر مبدأ المشاكلة والنظير الذي يأخذ به أبو تمام في اختيار القطع داخل الباب الواحد، ولقد رأينا أمثلة متعددة تدل على هذا المبدأ وتؤكده، من ذلك ما جاء في الحماسية رقم (37) فقد أورد أبو تمام أبياتًا ثلاثة للحارث بن هشام المخزومي قالها في يوم بدر، يوم ترك أخاه أبا جهل وغيره من سادة قريش يقتلون ولاذ بالفرار وقال:
الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مُزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحدًا اقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة بينهم طمعًا لهم بعقاب يوم سرمد
فواضح أنه وإن فر وترك أحباءه يقتلون، فإن البيت الثالث يدل على حرصه على أخذ الثأر لهم، وهذا فعل الشجاع العاقل الذي يفر ليكر، ومن هنا دخلت الأبيات في باب الحماسة، ولكن أبا تمام روى بعد هذه القطعة قطعة للفرار السلمي ليس فيها هذا الذي لحظناه في أبيات الحارث بن هشام، وإنما فيها أنه قد أثار الحرب بين الكتائب حتى إذا ما اشتعلت الحرب، وبدأت الرماح تنال من ظهور قومه تركهم وفر وعلم أنه لن ينفعه نوح نساء الحي عليه بقولهن لا تبعد. يقول الفرار:
وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي

الصفحة 29