كتاب شروح حماسة أبي تمام دراسة موازنة في مناهجها وتطبيقها

فالحماسية 253، وهي لمعبد بن علقمة يقول في مطلعها:
غُيبت عن قتل الحُتات وليتني شهدت حتاتًا يوم ضرج بالدم
وهي لا تخلو من حماسة، ولكنها اشتملت في معانيها على العقوق الذي ينشأ بين العشائر حين يدب الفساد بينها، ويقع الشر ليخلف الإحن والعداوات، ولهذا أردفها أبو تمام بأبيات أمية بن أبي الصلت التي يصور فيها عقوق أحد أبنائه ويقول في مطلعها:
غذوتك مولودًا وعلتك يافعًا تُعل بما أدني إليك وتُنهل
وهي أبيات بقراءتنا لها لا نجد فيها أثرًا للحماسة، ولكنه أوردها لمشاكلتها أبيات معبد بن علقمة في العقوق، ولم يكتف بذلك بل أورد قطعة ثالثة لأم ثواب الهزانية تشكو فيها عقوق ابن لها وتقول في مطلعها:
ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه أم الطعام ترى في جلده زغبا
ولا شك في أن مشاكلتها لأبيات أمية بن أبي الصلت هي التي أوردتها في هذا الباب، وقد تنبه الإمام المرزوقي إلى هذا حين عقب على قطعة أمية بن أبي الصلت مشيرًا إلى أبيات أم ثواب بعدها بقوله: "فإن قيل بماذا دخل هذه الأبيات وما يتلوها - وهو في معناها - في باب الحماسة قلت: دخل فيه بالمشاكلة التي بينها وبين ما تقدمها من الأبيات المنبئة عن المفاسدة بين العشائر، وما يتولد فيها من الإحن والضغائن المُنسية للتواشج والتناسب، المنشئة لهتك المحارم، المبيحة لسفك الدماء وقطع العصم، إذ كان عقوق البنين للآباء وتناسي الحرم فيه مثل ذلك، وهو ظاهر بين".
وجملة القول في هذه القضية أن الخلل الذي وقع في أبواب اختيار الحماسة برواية بعض الشعر في باب لا يدخل في حده نتج في رأينا عن أمرين: أحدهما أن أغراض الشعر لم تكن قد تبلورت بعد في عصر أبي تمام بالصورة التي نراها اليوم. وأدل دليل على ذلك أن البحتري تلميذ أبي تمام قد بلغ بها أربعة وسبعين ومائة باب

الصفحة 31