كتاب شروح حماسة أبي تمام دراسة موازنة في مناهجها وتطبيقها

في حماسته التي تنسب إليه، والتي قيل إنه جاري فيها أستاذه، فهذا وحده يدل على مدى الاضطراب البالغ في ذلك الزمن في رسم حدود الأغراض التي دار فيها الشعر العربي، والآخر ما بيناه بالأمثلة السابقة أن أبا تمام كان يراعي في الباب الواحد مشاكلة القطع في بعض المعاني وإن خرجت عن الحد الذي يقوم عليه الباب.
د- مقياس أبي تمام في اختيار الحماسة:
اختلف مقياس أبي تمام في اختيار الشعر في ديوان الحماسة عن الذين سبقوه في هذا السبيل أو الذين جاءوا بعده، فالذي ينظر في المفضليات والأصمعيات وجمهرة أشعار العرب يجد أن المقياس الذي اتبعه أصحاب هذه الاختيارات كان مقياسًا يقوم على الثقافة والعلم بهدف الاطلاع على ما قالت العرب من شعر، وما وقفت عليه من ثقافة ومعرفة باللغة والأيام والعادات والأمثال، والحيوان أليفه وغير أليفه، وطبيعة العيش والمواقع الجغرافية، والمجتمع وما كان فيه من ظواهر تتصل بحياته، والمرأة وما عرف في حياتها من رفاهية يدل عليها لبس الحلي والتزين بالأوشحة والخمر، وتعاطي ألوان الطيب المجلوبة من خارج شبه الجزيرة، وكذلك عاداتهم في الحرب والسلم، وشاراتهم في الحرب، وتمائم الأطفال، واتصالهم بالأمم الأخرى ومظاهر ذلك في وصف قصور الأعاجم وما فيها من تصاوير ورسوم وزخارف، ووصف ما جاءت به البحارة من بلادهم، وكذلك الديانات من يهودية ونصرانية ومعرفتهم بأخبار الأمم البائدة، والكتابة وأنواع أدواتها. كل هذه الألوان الثقافية العلمية دل عليها الشعر الذي اختاره هؤلاء السابقون، وقد يكون للجودة مكان في هذا الذي اختاروه، ولكنها لم تكن وحدها هي المطلب الذي توخوه في اختياراتهم، وهذا ما يفرق بينهم وبين أبي تمام، فأبو تمام لم يتوخ الثقافة والعلم في اختياره بقدر ما اهتم بجودة ما يختار.
وكذلك اختلف مقياس أبي تمام عمن جاء بعده، فالبحتري في الحماسة المنسوبة إليه كان مقياسه في الاختيار مقياسًا أخلاقيًا، وهذا ما جعل الدكتور إحسان عباس يقول عنه: "وغلبت عليه النزعة الأخلاقية، والأبواب التي انتظمت حماسته تؤكد

الصفحة 32