كتاب شروح حماسة أبي تمام دراسة موازنة في مناهجها وتطبيقها

القول وأن الملح فيها كثير من الخنا والتصريح بالعوراء، والإسفاف في الفكرة والتفه في الموضوع".
ويقيني أن هذه المآخذ كانت تصح لو أن مقياس أبي تمام كان مقياسًا أخلاقيًا، وأما وقد كان مقياسه جماليًا فنيًا فلا وجه حينئذ للمفاضلة بين باب الاعتذار والملح، أضف إلى ذلك أن الاعتذار قد ارتبط منذ الجاهلية عند نابغة بني ذبيان بالمديح، فلعل ارتباطه بالمديح هو الذي دفع أبا تام إلى إسقاطه وبخاصة حين نراه قد عنى بالمديح عناية تامة تغني عن اختيار قطع من الاعتذار يمتزج فيها الفنان معًا كما امتزج الأضياف بالمديح، ولو فعل أبو تمام هذا لنجم شيء من الازدواج في الاختيار يؤدي إلى خلل أو تكرار في معاني البابين.
ومهما أخذ على أبي تمام في اختياره فإنه بحق كان منصفًا في الحماسة، وإنصافه إنما يتمثل في أنه خالف طريقته في الشعر التي أخذها على نفسه، وهذا ما أكده الدكتور إحسان عباس حين قال: "من يقارن بين هذه المختارات التي تضمنتها دفتاديوان الحماسة وبين أشعار أبي تمام التي نظمها بنفسه يستطيع أن يلاحظ أنه استطاع أن يتجاوز طريقته الشعرية، وما تميزت به من طلب للصور ومن إغراب في توليد المعاني واستغلال الذكاء الواعي إلى شعر يتميز بالبساطة وشيء غير قليل من العفوية، والصدق العاطفي المباشر، وهو في اختياراته هذه يعتمد على ذوقه الخاص، وبذلك كان البون بعيدًا حقًا بين اختيار أبي تمام في حماسته وبين طريقته الشعرية".
وهذا الذي قال به الدكتور إحسان عباس قد نوه له الإمام المرزوقي في مقدمة شرحه للحماسة حين ذكر "أن أبا تمام كان يختار ما يختار لجودته لا غير ويقول ما يقول من الشعر بشهوته، والفرق بين ما يشتهي وبين ما يستجاد ظاهر بدلالة أن العارف بالبز قد يشتهي لبس ما لا يستجيده، ويستجيد مالا يشتهي لبسه".

الصفحة 37