كتاب شروح حماسة أبي تمام دراسة موازنة في مناهجها وتطبيقها

وثمة أمر آخر ينبغي ملاحظته - ونحن نتحدث عن مقياس الجودة عند أبي تمام، وما أخذ عليه فيه أو سجل له فيه من إنصاف - وهو أن الشعر العربي قد ضم بين طياته المستنكر الوحشي والمبتذل العامي، وإذا كنا قد قلنا إن أبا تمام كان منصفًا في اختياره فإنه بجانب هذا الإنصاف قد تجنب هذين اللونين في اختياره إلا في الشاذ النادر الذي لا يعول عليه. وقد وضح الإمام الباقلاني هذا حين أفاد بأن الأعدل في الاختيار الشعري "ما سلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في كتاب الحماسة وما اختاره من الوحشيات، وذلك أنه تنكب المستنكر الوحشي، والمبتذل العامي، وأتى بالواسطة، وهذه طريقة من ينصف في الاختيار".
وصفوة القول في هذا الجانب أن مقياس أبي تمام في اختيار الحماسة كان مقياسًا جماليًا فنيًا، وأن هذا المقياس قد ساد القطع الشعرية التي اختارها إلا في أبيات أخذ عليه بعض العلماء خروجها عن مقياس الجودة، وأنه كان منصفًا في اختياره هذا لأنه خالف فيه طريقته في الشعر، بل حقق في هذا الاختيار نفي الوحشي المستنكر والمبتذل العامي إلا في ألفاظ قليلة تعد شاذة لا حكم لها إذا ما نظرنا إلى الكل الذي انتظم تمامًا تحت مقياسه.
6 - في شعراء الحماسة:
اهتم أبو تمام في اختياره بالشعراء المقلين والشعراء المجهولين، وغايته من هذا واضحة، هي أن الشعراء المكثرين أو المعروفين قد تداول الناس دواوينهم قبل عصره، واهتمت بهم كتب الاختيارات التي سبقته مثل اختيار القصائد السبع الطوال ودواوين القبائل وغيرها، وربما كان أبو تمام متأثرًا في اتجاهه هذا بما طلبه أبو جعفر المنصور من المفضل الضبي في تأديب ابنه المهدي حين قال له: "لو عمدت إلى أشعار المقلين واخترت لفتاك لكل شاعر أجود ما قال لكان ذلك صوابًا" فعمل المفضل بنصيحة أبي جعفر فكانت المفضليات.

الصفحة 38