كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)

قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: ٦٥]، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: ٨٢] وبين أمر التكليف.
فإذا بطل ذلك فالوجه في الكلام على هذه الآي ــ وقد غوى في معانيها أكثر الفرق ــ أن نقول: إذا أراد الله بعبده خيرًا أكمل عقله، وأتم بصيرته، ثم صرف عنه العوائق والدوافع، وأزاح عنه الموانع، ووفّق له قرناء الخير، وسهّل له سبله، وقطع عنه الملهيات وأسباب الغفلات والذهول، وقيّض له ما يقربه إلى القربات، فيوافيها ثم يعتادها، ويتمرّن عليها.
وإذا أراد بعبده شرًّا قدّر له ما يبعده عن الخير ويُقْصِيه، وهيّأ له أسباب تماديه في الغي، وحبّب إليه التشوّف إلى الشهوات، وعرّضه للآفات، وكلما غلبت عليه دواعي النفس (¬١) خنست دواعي الخير، ثم يستمر على الشرور على مر الدهور، هاويًا في مهاويها، وتتعاون عليه الوساوس ونزغات الشيطان، ونَزَقات النفس الأمّارة بالسوء، فتنسج الغفلة على قلبه غشاوة بقضاء الله وقدره، فذلكم الطبع والختم والأكنّة.
وأنا أضرب في ذلك مثلًا فأقول: لو فرضنا شابًّا حديث العهد بحلمه، لم تهذّبه المذاهب، ولم تحنّكه التجارب، وهو على نهايته في غِلْمَته وشهوته، وقد استمكن من بُلْغَة من الحُطام، وخُصّ بمسحة من الجمال، ولم يقم عليه قوّام يزعه عن ورطات الردى، ويمنعه عن الارتباك في شبكات الهوى (¬٢)،
---------------
(¬١) في "النظامية": "دواعي الشر"، وهو الأليق بالسياق.
(¬٢) في "الصحاح" (٤/ ١٥٨٦): "ارتبك الرجل في الأمر، أي نشب فيه، ولم يكد يتخلص منه".

الصفحة 407