كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)

ووافاه أخدان الفساد، وهو في غُلَوَاء شبابه، يحدث نفسه بالبقاء أمدًا بعيدًا، فما أقرب مَن هذا وصفه مِن خَلْع العِذَار، والبدار إلى شيم الأشرار، وهو مع ذلك كلّه مُؤْثِر مختار، ليس مجبرًا على المعاصي والزلات، ولا مصدودًا عن الطاعات، ومعه من العقل ما يستوجب به اللائمة إذا عصى، فمن هذا سبيله لا يستحيل في العقل تكليفه؛ فإنه ليس ممنوعًا، ولكن إن سبق له من الله سوء القضاء فهو صائر إلى حكم الله الجزم وقضائه الفصل، محجوجًا بحجة الله، إلا أن يتغمده الله برحمته، وهو أرحم الراحمين.
وهذا الذي ذكرته بيّنٌ في معاني الآيات، لا يتمارى فيه موفَّق، قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: ٧٤]، أراد أنهم استمروا على المخالفات، وأصروا بانتهاك الحرمات، فقست قلوبهم.
وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: ٢٨].
فقد جَمَعْتَ بين تفويض الأمور كلّها ــ نفعها وضرها، خيرها وشرّها ــ إلى الإله جلّت قدرته، وبين إثبات حقائق التكليف، وتقرير قواعد الشرع على الوجه المعقول، ألست في هذا أهدى سبيلًا، وأقوم قيلًا ممن يُقدّر الطبْع منعًا، والختم صدًّا ودفعًا، ثم ينفي التكاليف بزعمه.
وقد افترق الخلق في هذا المقام فرقًا، فذهب ذاهبون إلى أن المخذولين ممنوعون مدفوعون، لا اقتدار لهم على إجابة دعاة الحق، وهم مع ذلك ملزمون. وهذا خطب جسيم، وأمر عظيم، وهو طعن في الشرائع، وإبطال للدعوات، وقد قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} [الكهف: ٥٥]، وقال لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: ٧٥].

الصفحة 408