كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)

الأمم، وهو التوحيد الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو الذي أمر به رسله، وأنزل به كتبه، ودعا إليه عباده، ووضع لهم دار الثواب والعقاب لأجله، وشرع الشرائع لتكميله وتحصيله.
وكان من قولك أيها الجبري: إن العبد لا قدرة له على هذا البتّة، ولا أثر له فيه، ولا هو فعله، وأمْره بهذا أمْر له بما لا يطيق، بل أمْر له بإيجاد فعل الربِّ، وأن الربّ تعالى أَمَرَه بذلك، وأجبره على ضده، وحال بينه وبين ما أَمَرَه به، ومنعه منه، وصدّه عنه، ولم يجعل له إليه سبيلًا بوجه من الوجوه.
مع قولك: إنه لا يُحِبّ، ولا يُحَبّ، فلا تتألّهه القلوب بالمحبّة والودّ والشوق والطلب وإرادة وجهه، والتوحيد معنى ينتظم من إثبات الإلهية وإثبات العبودية، فرفَعْتَ معنى الإلهية بإنكار كونه محبوبًا مودودًا، تتنافس القلوب في محبته وإرادة وجهه، والشوق إلى لقائه، ورفَعْتَ حقيقة العبودية بإنكارك كون العبد فاعلًا وعابدًا ومحِبًّا، فإن هذا كله مجاز لا حقيقة له عندك.
فضاع التوحيد بين الجَبْر وإنكار محبته وإرادة وجهه، لاسيما والوصف الذي وصفتَه به منفّرٌ للقلوب عنه، حائل بينها وبين محبته؛ فإنك وصفته بأنه يأمر عبده بما لا قدرة له على فعله، وينهاه عما لا يقدر على تركه، بل يأمره بفعله هو سبحانه، وينهاه عن فعله هو، ثم يعاقبه أشد العقوبة على ما لم يفعله البتّة، بل يعاقبه على أفعاله هو سبحانه.
وصرّحتَ بأن عقوبته على ترك ما أمره، وفعل ما نهاه بمنزلة عقوبته له على ترك طيرانه إلى السماء، وترك تحويله الجبال عن أماكنها، ونقله مياه البحار عن مواضعها، وبمنزلة عقوبته له على ما لا صنع له فيه من لونه

الصفحة 455