كتاب شرح مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية

وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَاتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره: علم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكون ذلك ممكنًا للمؤمنين؟ وهذا يبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم.
الوجه الثالث: أنه قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، فبيّن أنه أنزله عربيًا لأن يعقلوا، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه.
الوجه الرابع: أنه ذم من لا يفهمه فقال تعالى: {وَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء: 45، 46]، وقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضًا لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به.
الوجه الخامس: أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه، فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، وأمثال ذلك.

الصفحة 307