كتاب شرح النووي على مسلم (اسم الجزء: 9)
فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ) هَذَا الرَّجُلُ السَّائِلُ هُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ كَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لَا يَقْتَضِيهِ وَالثَّانِي يَقْتَضِيهِ وَالثَّالِثُ يَتَوَقَّفُ فِيمَا زَادَ عَلَى مَرَّةٍ عَلَى الْبَيَانِ فَلَا يُحْكَمُ بِاقْتِضَائِهِ ولا يمنعه وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِالتَّوَقُّفِ لِأَنَّهُ سَأَلَ فَقَالَ أَكُلُّ عَامٍ وَلَوْ كَانَ مُطْلَقُهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَوْ عَدَمَهُ لَمْ يَسْأَلْ وَلَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ بَلْ مُطْلَقُهُ مَحْمُولٌ عَلَى كَذَا وَقَدْ يُجِيبُ الْآخَرُونَ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَأَلَ اسْتِظْهَارًا وَاحْتِيَاطًا وَقَوْلُهُ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِنَّمَا احْتَمَلَ التَّكْرَارَ عنده من وجه آخر لِأَنَّ الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ قُصِدَ فِيهِ تَكَرُّرٌ فَاحْتَمَلَ عِنْدَهُ التَّكْرَارَ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ لَا مِنْ مُطْلَقِ الْأَمْرِ قَالَ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِمَا ذكرناه عن اهل اللغة ها هنا مَنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْعُمْرَةِ وَقَالَ لَمَّا كَانَ قوله تعالى ولله على الناس حج البيت يَقْتَضِي تَكْرَارَ قَصْدِ الْبَيْتِ بِحُكْمِ اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ إِلَّا مَرَّةً كَانَتِ الْعَوْدَةُ الْأُخْرَى إِلَى الْبَيْتِ تَقْتَضِي كَوْنَهَا عُمْرَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ قَصْدُهُ لِغَيْرِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ فَفِيهِ دَلِيلٌ لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَحْكَامِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ وَقِيلَ يُشْتَرَطُ وَهَذَا الْقَائِلُ يُجِيبُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْأُصُولِيِّينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رسولا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الصفحة 101
240