كتاب شرح النووي على مسلم (اسم الجزء: 9)

تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض) وفي الأحاديث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَظَاهِرُهَا الِاخْتِلَافُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِ مَكَّةَ فَقِيلَ إِنَّهَا مَا زَالَتْ مُحَرَّمَةً مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَقِيلَ مَا زَالَتْ حَلَالًا كَغَيْرِهَا إِلَى زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ثَبَتَ لَهَا التَّحْرِيمُ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ الْحَدِيثَ الثَّانِي وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يُوَافِقُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ الثَّانِي بِأَنَّ تَحْرِيمَهَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ خَفِيَ تَحْرِيمُهَا وَاسْتَمَرَّ خَفَاؤُهُ إِلَى زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ فَأَظْهَرَهُ وَأَشَاعَهُ لَا أَنَّهُ ابْتَدَأَهُ وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ فِي غَيْرِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَيُحَرِّمُ مَكَّةَ بِأَمْرِ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ الْقَتْلُ بَدَلَ الْقِتَالُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا لَهُ إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ ظَاهِرَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ الْحَاوِي مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ مِنْ خَصَائِصِ الْحَرَمِ أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهُ فَإِنْ بَغَوْا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ بَلْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ وَيَدْخُلُوا فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ قَالَ وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يُقَاتَلُونَ عَلَى بَغْيِهِمْ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُمْ عَنِ الْبَغْيِ إِلَّا بِالْقِتَالِ لِأَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ مِنْ

الصفحة 124