كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 13)

قال: فعلى هذا يكون المعنى: من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا، فليس منا. أي ليس على طريقتنا. واحتج أبو عبيد أيضًا بقول ابن مسعود: "من قرأ سورة آل عمران، فهو غني". ونحو ذلك.
وقال ابن الجوزي: اختلفوا في معنى قوله: "يتغنى" على أربعة أقوال: (أحدها): تحسين الصوت. (والثاني): الاستغناء. (والثالث): التحزن. قاله الشافعي. (والرابع): التشاغل به، تقول العرب: تغنى بالمكان أقام به.
قال الحافظ: وفيه قول آخر، حكاه ابن الأنباري في "الزهر" قال: المراد به التلذذ، والاستحلاء له، كما يَسْتَلِذُّ أهل الطرب بالغناء، فأطلق عليه تغنيًا من حيث أنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء، وهو كقول النابغة: [من الوافر]
بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلًا (¬1) ... مُفَجَّعَةً عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي
أطلق على صوتها غِنَاء، لأنه يطرب كما يطرب الغناء، وإن لم يكن غناء حقيقة، وهو كقولهم: "العمائم تيجان العرب". لكونها تقوم مقام التيجان.
وفيه قول آخر حسن، وهو أن يجعله هِجِّيرَاه، كما يجعل المسافر والفارغ هِجِّيراه الغناءَ، قال ابن الأعرابي: كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى، وإذا جلست في أفنيتها، وفي أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون هجيراهم القراءةَ مكانَ التغني.
ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدم، فإنه أراد بقوله: "طويل التغني" طول الإقامة، لا الاستغناء؛ لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء. يعني أنه كان ملازما لوطنه بين أهله، كانوا يتمدحون بذلك، كما قال حسان: [من الكامل]
أَوْلَادُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمُ ... قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفَضَّلِ
أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع، ولا يبرحون من أوطانهم، فيكون معنى الحديث: الحث على ملازمة القرآن، وأن لا يتعدى إلى غيره، وهو يؤول من حيث المعنى إلى ما اختاره البخاري من تخصيص الاستغناء، وأنه يستغني به عن غيره من الكتب.
وقيل: المراد: من لم يغنه القرآن، وينفعه في إيمانه، ويصدق بما فيه من وعد ووعيد. وقيل: معناه: من لم يرتح لقراءته وسماعه. وليس المراد ما اختاره أبو عبيد أنه
¬__________
(¬1) "الهديل" بفتح، فكسر قيل: هو ذكر الحمام، أو فرخ الحمام، وقيل: غير ذلك. أفاده في "اللسان"، و"القاموس".

الصفحة 20