كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 13)

يحصل به الغنى دون الفقر، لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع، إذا أريد به الغني المعنوي، وهو غنى النفس، وهو القناعة، لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر، لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة، إلا إذا كان ذلك بالخاصية، وسياق الحديث يأبى العمل على ذلك، فإن فيه إشارة إلى الحث على تكلف ذلك، وفي توجيهه تكلف، كأنه قال: ليس منا من لم يتطلب الغنى بملازمة تلاوته.
قال الحافظ: وأما الذي نقله عن الشافعي، فلم أره صريحا عنه في تفسير الخبر، وإنما قال في "مختصر المزني": وأحب أن يقرأ حَدْرًا وتحزينا. انتهى. قال أهل اللغة: حَدَرْتُ القراءة: أدرجتها، ولم أمططها، وقرأ فلان تحزينا: إذا رقق صوته، وصيره كصوت الحزين.
وقد روى ابن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - "أنه قرأ سورة، فحزنها شبه الرَّثْيِ". وأخرجه أبو عوانة عن الليث بن سعد، قال: "يتغنى به، يتحزن به، ويرقق به قلبه".
وذكر الطبري عن الشافعي أنه سئل عن تأويل ابن عيينة التغني بالاستغناء، فلم يرتضه، وقال: لو أراو الاستغناء لقال: لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت.
قال ابن بطال: وبذلك فسره ابن أبي مليكة، وعبد الله بن المبارك، والنضر بن شميل، ويؤيده رواية عبد الأعلى، عن معمر، عن ابن شهاب في حديث الباب بلفظ "ما أذن لنبي في الترنم في القرآن". أخرجه الطبري، وعنده في رواية عبد الرزّاق، عن معمر: "ما أذن لنبي حسن الصوت". وهذا اللفظ عند مسلم من رواية محمَّد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة. وعند أبي داود، والطحاوي من رواية عمرو بن دينار، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "حسن الترنم بالقرآن". قال الطبري: "والترنم" لا يكون إلا بالصوت، إذا حسنه القارئ، وطرب به، قال. ولو كان معناه: الاستغناء لما كان لذكر الصوت، ولا لذكر الجهر معنى.
وأخرج ابن ماجه، والكجي، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث فَضالة بن عبيد رضي الله عنه مرفوعًا: "الله أشد أَذَنًا -أي استماعا- للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنَة إلى قينته". و"القينة": المغنية.
وروى ابن أبي شيبة من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - رفعه: "تعلموا القرآن، وغنُّوا به، وأفشوه". كذا وقع عنده، والمشهور عند غيره في الحديث: "وتغنوا به"، والمعروف في كلام العرب أن التغني: الترجيع بالصوت، كما قال حسان: [من البسيط]:

الصفحة 21