كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 16)

قلنا: لا نُسلّم أن سبب الكسوف ما ادّعوه، ومن أين عرفوا ذلك، بالعقل، أم بالنقل؟ وكلّ واحد منهما إما بواسطة نظر، أو بغير واسطة، ودعوى شيء من ذلك ممنوعة، وغايتهم أن يقولوا: ذلك مبنيّ على أمور هندسيّة، ورصدية تُفضي بسالكها إلى القطع، ونحن نمنع أيضًا ما ذكروه إلى (¬1) القطع، وهو أول المسألة.
ولئن سلّمنا ذلك جَدَلًا، لكنّا نقول: يحصل بهما تخويفُ العقلاء من وجوه متعدّدة، أوضحها أن ذلك مذكّر بالكسوفات التي تكون بين يدي الساعة، ويمكن أن يكون ذلك الكسوف منها, ولذلك قام النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - فَزِعًا، يخشى أن تقوم الساعة، وكيف لا؟ وقد قال اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 7 - 9] قال أهل التفسير: جُمِعَ بينهما في إذهاب نورهما، وقيل: غير ذلك، وأيضًا فإن كلّ ما في هذا العالم علويّه وسفليّه دليل على نفوذ قدرة اللَّه، وتمام قهره، واستغنائه، وعدم مبالاته، وذلك كلّه يوجب عند العلماء باللَّه خوفه، وخشيته، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وخص هنا خسوفهما بالتخويف, لأنهما أمران علويّان نادران، طارئان، عظيمان، والنادر العظيم مخوّف، موجع، بخلاف ما يكثر وقوعه، فإنه لا يحصل منه ذلك غالبًا، وأيضًا فلِمَا وقع فيهما من الغلط الكثير لأمم التي كانت تعبدهما, ولِمَا وقع للجهّال من اعتقاد تأثيرهما انتهى كلام القرطبي -رحمه اللَّه تعالى- (¬2). وهو تحقيق نفيس. واللَّه تعالى أعلم.
(فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفَ أَحَدِهَمِا، فَاسْعَوْا إِلىَ ذِكْرِ اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالَّذِي نَفْسُ محُمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ أُدْنِيَتِ الْجَنَّةُ مِنِّي) أي دنوّا حقيقيَّا (حَتَّى لَوْ بَسَطْتُ يَدِي) غاية لشدة دنوّها منه (لَتَعَاطَيْتُ مِنْ قُطُوفِهَا) جمع قطف -بكسر، فسكون- وهو: ما يُقطف منها، أي يُقطع، ويُجتنى، وهو هنا عُنقودٌ من العنب، كما جاء مفسّرًا في الرواية الأخرى (وَلَقَدْ أُدْنِيَتِ النَّارُ مِنِّي، حَتَّى لَقَدْ جَعَلْتُ أَتَّقِيهَا، خَشْيَةَ أَنْ تَغْشَاكُمْ، حَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً، مِنْ حِمْيَرَ) بكسر، فسكون، أي منسوبة إلى قبيلة حِمْيَر، قال المجد اللغوي: حِمْيَر، كدِرْهم: موضع غَربيَّ صَنْعَاء اليمن، وابنُ سَبَأ بن يَشْجُبَ، أبو قبيلة انتهى (¬3). وفي رواية لمسلم: "فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل" وفي رواية: "فرأيت فيها امرأة حميرية سوداء طويلة" (تُعَذَّبُ) بالبناء للمفعول، والجملة صفة لـ"امرأة" بعد صفة، أو حال (فِي
¬__________
(¬1) هكذا عبارة المفهم "إلى القطع" ولعل الصواب من إفضائه إلى القطع. فليحرّر.
(¬2) "المفهم" ج 2 ص 552 - 553.
(¬3) انظر "ق" في مادة حمر.

الصفحة 436