كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 17)

(وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، إِذَا بَدَا لِشَيْءِ مِنْ خَلْقِهِ، خَشَعَ لَهُ) قال الإمام ابن القيّم: في كتابه "مفتاح السعادة": قال أبو حامد الغزالي: هذه الزيادة لم يصحّ نقلها، فيجب تكذيب ناقلها، وإنما المرويّ ما ذكرنا، يعني الحديث الذي ليست هذه الزيادة فيه، قال: ولو كان صحيحًا لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعيّة، فكم من ظاهر أْوّلت بالأدلّة العقلية التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحدّ.
قال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: وإسناد هذه الزيادة لا مطعن فيه (¬1) ورواته كلهم ثقات حُفّاظ، ولكن لعلّ هذه اللفظة مدرجة في الحديث من كلام بعض الرواة، ولهذا لا توجد في سائر أحاديث الكسوف، فقد رواها عن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - بضعة عشر صحابيًا: عائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وعلي بن أبي طالب، وأُبيّ بن كعب، وأبو هريرة، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو، وجابر بن عبد اللَّه، وسمرة بن جُندب، وقَبِيصة الهلالي، وعبد الرحمن بن سمرة، فلم يذكر أحد منهم في حديثه هذه اللفظة، فمن هنا يُخاف أن تكون أُدرجت في الحديث إدراجًا, وليست في لفظ رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، على أن هنا مسلكًا بديعَ المأخذ، لطيف المَنْزَع، يقبله العقل السليم، والفطرة السليمة، وهو أن كسوف الشمس والقمر يوجب لهما من الخشوع والخضوع بانمحاء نورهما، وانقطاعه عن هذا العالم ما يكون فيه ذهاب سلطانهما، وبهائهما، وذلك يوجب لا محالة لهما من الخشوع والخضوع لربّ العالمين، وعظمته وجلاله ما يكون سببًا لتجلي الربّ تعالى، ولا يستلزم أن يكون تجلي اللَّه سبحانه لهما في وقت معيّن، كما يدنو من أهل الموقف عشيّة عرفة، فَيُحدث لهما ذلك التجلي خشوعًا آخر، ليس هذا الكسوف، ولم يقل النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -: إن اللَّه تعالى إذا تجلى لهما انكسفا, ولكن اللفظة عند أحمد، والنسائيّ: "إن اللَّه تعالى إذا بدا لشيء من خلقه خشع له"، ولفظ ابن ماجه: "فإذا تجلّى اللَّه تعالى لشيء من خلقه، خشع له"، فههنا خشوعان: خشوع أوجب كسوفهما بذهاب ضوئهما، وانمحائه، فتجلى اللَّه لهما، فحدث لهما عند تجلّيه تعالى خشوع آخر بسبب التجلّي، كما حدث للجبل إِذْ تجلى له تعالى خشوع أن صار دَكّا، وساخ في الأرض، وهذا غاية الخشوع، لكن الربّ تعالى يثبتهما لتجلّيه عنايةً بخلقه، لانتظام مصالحهم بهما, ولو شاء سبحانه لثبّت الجبلَ لتجلّيه كما يثبّتهما, ولكن أرى كليمه موسى - عليه السلام - أن الجبل العظيم لم يُطق الثبات لتجليه له، فكيف تطيق
¬__________
(¬1) سيأتي ما فيه من المطاعن قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

الصفحة 11