كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 17)

الخطّابيّ: أصله تكععت، فاستثقلوا اجتماع ثلاث عينات، فأبدلوا من إحداها حرفًا مكررًا، ووقع في رواية مسلم "ثم رأيناك كففت" بفاءين خفيفين (قَالَ: "إِنّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ") تقدّم أن هذه الرؤية رؤية حقيقية على الراجح (أَوْ) للشكّ من الراوي ("أُرِيتُ الْجَنَّةَ (قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ظاهره أنها رؤية عين، فمنهم من حمله على أن الحجب كُشفت له دونها، فرآها على حقيقتها، وطويت المسافة بينهما، حتى أمكنه أن يتناول منها، وهذا أشبه بظاهر هذا الخبر، ويؤيده حديث أسماء - رضي اللَّه عنها -، بلفظ: "دنت مني الجنّة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقِطْف من قِطافها".
ومنهم من حمله على أنها مثّلت له في الحائط، كما تنطبع الصورة في المرآة، فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس - رضي اللَّه عنه -: "لقد عُرضت عليّ الجنّة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط، وأنا أصلي"، وفي رواية "لقد مثلت"، ولمسلم "لقد صُوّرت"، ولا يَرِد على هذا أن الانطباع إنما هو في الأجسام الصقيلة, لأنا نقول: هو شرط عاديّ، فيجوز أن تنخرق العادة خصوصًا للنبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر، ولا مانع أن يرى الجنّة والنار مرتين، بل مرارًا على صور مختلفة، وأبعدَ مَن قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم. (¬1).
وقال القرطبي -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هذه الرؤية رؤية عيان حقيقة، لا رؤية علم، بدليل أنه رأى في الجنّة والنار أقوامًا بأعيانهم، ونعيما، وقطفا من عنب، وتناوله، وغير ذلك، ولا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها, لا سيما على مذهب أهل السنّة في أن الجنة والنار قد خُلقتا، ووُجدتا، كما دلّ عليه الكتاب والسنّة، وذلك راجع إلى أن اللَّه تعالى خلق لنبيه - صلى اللَّه عليه وسلم - إدراكًا خاصا به، أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما، كما قد خلق له إدراكًا لبيت المقدس، فطفق يخبرهم عن آياته، وهو ينظر إليه.
ويجوز أن يقال: إن اللَّه تعالى مثّل له الجنّة والنار، وصوّرهما له في عُرْض الحائط، كما تتمثّل صور المرئيات في المرآة، ويعتضد هذا بما رواه البخاريّ من حديث أنس - رضي اللَّه عنه - في غير حديث الكسوف، قال - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لقد رأيت الآن منذ صلّيت لكم الصلاةَ الجنةَ والنارَ متمثلتين في قبلة هذا الجدار"، وفي لفظ آخر: "عُرضت عليّ الجنَّةُ والنار آنفًا في عُرْض هذا الحائط، وأنا أصلي"، وقال فيه مسلم: "إني صُوِّرت لي الجنة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط".
ولا يُستبعَدُ هذا من حيث إن الانطباع في المرآة إنما هو في الأجسام الصَّقِيلة؛ لأنا
¬__________
(¬1) "فتح" ج 3 ص 242.

الصفحة 21