كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 17)

نقول: إن شرط ذلك عاديّ، لا عقليّ، ويجوز أن تنخرق العادة، وخصوصًا في مدّة النبوّة، ولو سُلّم أن تلك الشروط عقلية، فيجوز أن تكون تلك الأمور موجودة في جسم الحائط، ولا يُدرك ذلك إلا النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - انتهى كلام القرطبي -رحمه اللَّه تعالى- (¬1).
(فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا) قال في "المصباح": "العُنقُود" من العنب ونحوه فُنْعُول بضمّ الفاء، والْعِنْقَاد مثله انتهى (وَلَوْ أُخَذْتُهُ، لَأكَلْتُمْ مِنْهُ) وفي رواية البخاريّ: "ولو أصبته" بدل "ولو أخذته".
قال في "الفتح": واستُشكل مع قوله: "تناولت". وأُجيب يحمل التناول على تكلّف الأخذ، لا حقيقة الأخذ. وقيل: المراد تناولت لنفسي، ولو أخذته لكم، حكاه الكرماني، وليس بجيّد. وقيل: المراد بقوله: "تناولت" أي وضعت يدي عليه، بحيث كنت قادرًا على تحويله، لكن لم يقدّر لي قطفه، ولو أصبته، أي لو تمكنت من قطفه، ويدلّ عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة "أهوى بيده ليتناول شيئًا"، وللبخاري في حديث أسماء - رضي اللَّه عنها - "حتى لو اجترأت عليها"، وكأنه لم يؤذن له في ذلك، فلم يجترىء عليه. وقيل: الإرادة مقدّرة، أي أردت أن أتناول، ثم لم أفعل، ويؤيده حديث جابر - رضي اللَّه عنه - عند مسلم "ولقد مددت يدي، وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليها، ثم بدا لي أن لا أفعل"، ومثله للبخاريّ في حديث عائشة - رضي اللَّه عنها -، ولفظه: "حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنّة، حين رأيتموني جعلت أتقدّم"، ولعبد الرزاق من طريق مرسلة: "أردت أن آخذ منها قطفًا لأريكموه، فلم يقدّر"، ولأحمد من حديث جابر: "فحيل بيني وبينه".
قال ابن بطال -رَحِمَهُ اللَّهُ-: لم يأخذ العُنقود لأنه من طعام الجنة، وهو لا يَفنى، والدنيا فانية، لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. وقيل: لأنه لو رآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة، لا بالغيب، فيخشى أن يقع رفع التوبة، فلا ينفع نفسًا إيمانها. وقيل: لأن الجنّة جزاء الأعمال، والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة.
وحكى ابن العربي -رَحِمَهُ اللَّهُ- في "قانون التأويل" عن بعض شيوخه، أنه قال: معنى قوله: "لأكلتم منه الخ" أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل دائما، بحيث لا يغيب عن ذوقه.
وتعقّب بأنه رأيٌ فلسفيّ مبنيّ على أن دار الآخرة لا حقائق لها، وإنما هي أمثال. والحقّ أن ثمار الجنة لا مقطوعة، ولا ممنوعة، وإذا قُطعت خلقت في الحال، فلا
¬__________
(¬1) "المفهم" ج 2 ص 553 - 554.

الصفحة 22